يستمر البنك المركزي المصري في سياسة الاعتماد على الدين الحكومي لسد العجز المتنامي في الموازنة العامة، إذ يعتزم طرح أدوات دين بقيمة 65 مليار جنيه، في خطوة تعكس عمق الأزمة المالية في مصر وتظهر ضعف الحلول المطروحة للخروج من المأزق الاقتصادي. ورغم الإبقاء على أسعار الفائدة، لا تزال معدلات التضخم المرتفعة، إلى جانب العجز الكبير في الحساب الجاري وتراجع عائدات قناة السويس وصادرات الغاز، عوامل ضاغطة تزيد من هشاشة الاقتصاد المصري وتفاقم من أزماته.
التوسع في طرح أدوات الدين: ملاذ أم عبء إضافي؟ من المقرر أن يطرح البنك المركزي، نيابةً عن وزارة المالية، أذون خزانة بقيمة 50 مليار جنيه على آجال ثلاثة وتسعة أشهر، وسندات بقيمة 15 مليار جنيه على آجال سنتين وثلاث سنوات. تعتبر هذه الأدوات حلاً تقليدياً تستخدمه الحكومة لتمويل عجز الموازنة، لكن الاعتماد المتزايد عليها يزيد من مديونية الدولة ويعمّق مشكلاتها المالية بدلاً من حلها.
البنوك الحكومية تُعدّ من أكبر المشترين لهذه السندات والأذون، وهو ما يتيح للحكومة تأمين التمويل الضروري، لكنّه يُثقل كاهل الاقتصاد بفوائد مرتفعة ويضعف من قدرة الدولة على توجيه الموارد إلى التنمية أو دعم القطاعات الإنتاجية. بهذه السياسات، يبدو أن الحكومة المصرية لا ترى بديلاً عن الاقتراض لمواجهة النفقات المتزايدة وعجز الموازنة، مما يضع البلاد على مسار يزيد من هشاشة اقتصادها أمام الأزمات العالمية والمحلية.
عجز الحساب الجاري والتحديات الخارجية وفقًا لبيانات البنك المركزي، شهد عجز الحساب الجاري لمصر قفزة كبيرة، حيث بلغ 20.8 مليار دولار في العام المالي 2023-2024، بزيادة مذهلة تقدر بنسبة 342% مقارنةً بالعام المالي السابق. ويُعزى ذلك إلى ارتفاع العجز التجاري الناتج عن تراجع صادرات الغاز وانخفاض الإيرادات من رسوم المرور في قناة السويس، مما يسلط الضوء على اعتماد الاقتصاد المصري على مصادر دخل محدودة وتأثره الشديد بالتغيرات العالمية.
الاعتماد على صادرات الغاز وعائدات قناة السويس كمصادر رئيسية للنقد الأجنبي يجعل الاقتصاد عرضة لأي تقلبات في السوق العالمية، خاصة مع تراجع الطلب على الغاز وضعف التجارة البحرية. وهذا الوضع يضعف قدرة الحكومة على تحقيق استقرار اقتصادي داخلي ويزيد من الضغوط على الاحتياطات الأجنبية، مما يدفعها إلى الاعتماد المتزايد على الاقتراض الخارجي والداخلي لتمويل عجز الموازنة، ويزيد من خطر تعرض الاقتصاد لهزات شديدة.
استقرار الفائدة: هل هو خيار حكيم؟ رغم تزايد معدلات التضخم، قررت لجنة السياسة النقدية بالبنك المركزي تثبيت أسعار الفائدة للمرة الرابعة على التوالي. جاء هذا القرار بعد رفع كبير للفائدة بواقع 600 نقطة أساس في مارس 2024 كجزء من اتفاق مع صندوق النقد الدولي، في محاولة للسيطرة على التضخم وتخفيض تدفق النقد المحلي نحو الدولار.
لكنّ هذا الاستقرار في أسعار الفائدة لم يؤتِ ثماره في مواجهة التضخم، حيث ارتفع معدل التضخم مجددًا في أغسطس وسبتمبر 2024 بعد أن سجل تراجعاً طفيفاً في الفترة السابقة. يشير ذلك إلى أن الإجراءات النقدية للبنك المركزي قد تكون غير فعّالة بمفردها في السيطرة على التضخم، خصوصًا في ظل ارتفاع تكاليف الاستيراد وتراجع قيمة العملة المحلية. في هذا السياق، يظهر أن الاقتصاد المصري يفتقر إلى سياسات مالية واقتصادية مستدامة يمكنها تقديم حلول حقيقية، وليس مجرد تخفيف الآثار قصيرة المدى.
دور صندوق النقد الدولي وتأثير السياسات الداعمة له كان لرفع أسعار الفائدة في مصر صلة مباشرة باتفاق القرض مع صندوق النقد الدولي، والذي ارتفعت قيمته إلى ثمانية مليارات دولار بعد أن شهدت مصر عجزًا متزايدًا وتدهورًا اقتصاديًا استدعى تدخلات دولية. يُعدّ هذا القرض جزءًا من خطة الإصلاح الاقتصادي التي يتبناها الصندوق، لكنه يأتي بتكاليف اجتماعية وسياسية باهظة، إذ إن ارتفاع الفائدة يزيد من عبء الدين على الحكومة، ويقلص من فرص الإنفاق الحكومي على القطاعات الأساسية مثل التعليم والصحة والبنية التحتية.
السياسات الاقتصادية المفروضة من قِبل صندوق النقد الدولي قد تساعد على تحقيق استقرار قصير المدى، لكنها تفتقر إلى حلول فعالة وطويلة الأمد للنمو المستدام. وقد أدى اعتماد الحكومة على الديون الخارجية إلى تصاعد الضغوط الاقتصادية على الشعب المصري، مما يزيد من نسب الفقر والبطالة ويعزز من السخط الاجتماعي. وبدلاً من تعزيز الإنتاج المحلي وتطوير الصناعات، أصبح الاقتصاد يعتمد على التمويل الخارجي بشكل مفرط، مما يزيد من هشاشته وقدرته المحدودة على تحمل الصدمات الاقتصادية.
الآفاق المستقبلية: سيناريوهات مقلقة يتضح من التحديات الاقتصادية الحالية أن استمرار الاعتماد على الديون الحكومية والسندات يضع الاقتصاد المصري في موقف ضعيف، خصوصًا في ظل انعدام الرؤية الاستراتيجية للتنمية الاقتصادية. إذا لم تقم الحكومة المصرية بإصلاحات جذرية تتجه نحو تعزيز الإنتاج المحلي، وتطوير القطاعات الإنتاجية، وتنويع مصادر الدخل القومي، فإن الاقتصاد سيظل في وضع هش ومعرض للمخاطر، ما قد يدفع البلاد نحو أزمة اقتصادية حادة.
قد يبدو طرح أدوات الدين الحالي مخرجًا مؤقتًا لتغطية العجز، لكنه يشكل عبئًا مستقبليًا ثقيلًا سيظل الاقتصاد المصري يعاني من آثاره لعقود. وفي حال استمر تدهور الوضع المالي وعجز الحكومة عن تنفيذ إصلاحات حقيقية، فإن خطر الدخول في أزمة اقتصادية خانقة يصبح وشيكًا.
خاتما؛  في ظل هذه الأزمات المالية المتراكمة، يجد الاقتصاد المصري نفسه في حلقة مفرغة من الاعتماد على الاقتراض والعجز عن سد الالتزامات المالية. وبينما تستمر الحكومة في طرح أدوات الدين وتثبيت الفائدة، يعاني المواطن العادي من ارتفاع التكاليف وتدهور القدرة الشرائية، في وقت يتطلب فيه الوضع حلولًا جذرية للخروج من نفق الأزمة المالية.