في شهادة جديدة وصادمة على حجم القمع الممنهج في مصر، كشف مركز "النديم لتأهيل ضحايا العنف والتعذيب" عن رصده لـ 1246 انتهاكاً جسيماً في السجون ومقار الاحتجاز المختلفة، خلال الربع الثالث من عام 2025 وحده. التقرير، الذي حمل عنوان "أرشيف القهر"، يرسم صورة قاتمة لنظام أمني يستخدم العنف والتصفية والإهمال الطبي كأدوات لإخضاع المعارضين، ويؤكد أن الانتهاكات لم تعد حوادث فردية، بل سياسة دولة.
خريطة القهر: من الإخفاء القسري إلى التصفية الجسدية
يقدم التقرير، الذي يغطي أشهر يوليو وأغسطس وسبتمبر 2025، تفصيلاً مرعباً للانتهاكات. من بين الأرقام الصادمة، وثّق المركز 467 حالة ظهور بعد إخفاء قسري، و159 بلاغاً جديداً عن حالات إخفاء، مما يكشف استمرار هذه الجريمة كأداة رئيسية للترهيب. لكن الأخطر هو ما وثقه التقرير من 28 حالة قتل خارج نطاق القانون أو "تصفية جسدية"، و36 حالة وفاة داخل أماكن الاحتجاز، ليصبح الموت هو النتيجة الحتمية لمنظومة القمع.
حوادث التصفية الجسدية لم تعد تقتصر على سيناء، بل امتدت لتطال مواطنين في مختلف المحافظات. يذكر التقرير أسماء ضحايا مثل دينا علاء، التي قتلها زوجها الضابط في الإسكندرية بثلاث رصاصات، وصلاح أبو فياض في أسوان، وعادل عون الله فرج في أسيوط. كما وثق التقرير تصفية محرم فؤاد في القاهرة بعد ساعات من اعتقاله، وأحمد محمد عبد الرازق غنيم، نجل المعتقل المتوفى في السجن، في حلقة مفرغة من القتل والثأر الرسمي. هذه الحوادث، التي تبررها السلطات غالباً بأنها "تبادل لإطلاق النار" أثناء حملات أمنية، أصبحت نمطاً متكرراً للتخلص من المطلوبين دون محاكمات.
الموت البطيء في السجون: الإهمال الطبي والتعذيب
إلى جانب القتل المباشر، يرصد التقرير ظاهرة الموت البطيء داخل السجون. من بين 36 حالة وفاة موثقة، وقعت 20 منها في أقسام الشرطة، مما يجعلها مسالخ بشرية لا مجرد أماكن احتجاز مؤقتة. ويتصدر الإهمال الطبي المتعمد قائمة أسباب الوفاة بـ 15 حالة، يليه التعذيب بـ 11 حالة، مما يؤكد أن حرمان المعتقلين من الرعاية الصحية هو قرار سياسي وليس مجرد إهمال إداري.
أسماء مثل إبراهيم عبد صقر في سجن وادي النطرون، والسيد عبد الله عطوة في سجن العاشر من رمضان، وتامر حسني عبد الحميد في سجن ليمان المنيا، ليست مجرد أرقام، بل هي قصص لضحايا تُركوا ليموتوا ببطء دون دواء أو رعاية.
ويفصل التقرير أساليب التعذيب الوحشية التي أصبحت روتيناً في مقرات الاحتجاز، من الضرب والسحل والصعق بالكهرباء في أماكن حساسة من الجسد، إلى "التعليق" ورمي البراز في وجوه المعتقلين. ويُضاف إلى ذلك أشكال "التكدير" الجماعي والفردي، التي تهدف إلى تحطيم إنسانية السجين، مثل الحرمان من الطعام والماء والزيارات لسنوات، ومنع دخول الأدوية والملابس، وتجريد الزنازين من كل شيء، وحلق الشعر عنوة، والحبس في زنازين مكتظة لا تصلح للحيوانات.
إن تقرير "أرشيف القهر" ليس مجرد رصد أرقام، بل هو سجل دامغ لجهاز أمني يعمل خارج أي إطار قانوني أو إنساني. ومع اعتماد المركز على ما يُنشر في المنصات المستقلة والحسابات الحقوقية، فإن الأرقام الموثقة قد تكون مجرد غيض من فيض في ظل التعتيم الإعلامي الكامل. إنه دليل آخر على أن النظام في مصر قد حوّل السجون من دور عقابية إلى مقابر جماعية، حيث لا قيمة لحياة الإنسان ولا مكان للعدالة.