رأفت مرة

كاتب فلسطيني

 

يحقّ للشعب الفلسطيني، وحركة حماس، وكتائب القسام، أن يفخروا بأنهم قدّموا للعالم شخصية عظيمة اسمها أبو عبيدة، ملأ الدنيا وشغل الناس، وتحوّل إلى أيقونة للمقاومة على مستوى العالم.

 

القائد الشهيد أبو عبيدة صورة جميلة ورائعة، تشبه صورة الشعب الفلسطيني بتاريخِه وثقافتِه وحضارتِه وانفتاحِه.

 

أبو عبيدة مثّل صورة جديدة للقضية الفلسطينية، ونمطًا جديدًا لحقوق وأهداف الشعب الفلسطيني، كإضافة جديدة بالمضمون والشكل، عمّا عرفه العالم سابقًا عن القضية الفلسطينية وحقيقة الشعب الفلسطيني.

 

لم يكن أبو عبيدة ناطقًا رسميًا باسم كتائب القسام فقط، بل كان مسؤولًا أساسيًا عن الدعاية والتوجيه والحرب النفسية، ومسؤولًا عن صناعة الخطاب والصورة والمحتوى لكتائب القسام، وهو ما برع فيه بشكل كبير.

 

لقد نجح أبو عبيدة في تقديم صورة جديدة للقضية الفلسطينية، وساهم بشكل كبير في تعريف العالم بالحق الفلسطيني، وأعاد تعريف وتحديد الأهداف الفلسطينية المتمثّلة في الحرية والتحرر من الاحتلال، وتقرير المصير، وبناء الدولة الفلسطينية المستقلة، جامعًا في أدائه كل مكوّنات القضية الفلسطينية، مضافًا إليها الواقع الفلسطيني الجديد الناشئ بعد عملية طوفان الأقصى المباركة، والتضحيات الكبيرة التي قدّمها الإنسان الفلسطيني في قطاع غزة.

 

وساهم أبو عبيدة في عودة القضية الفلسطينية إلى رأس قائمة الاهتمام الدولي، وإلى أولوية سياسية على مستوى العالم، وتمكّن من إيصال الرسائل والمحتوى الفلسطيني إلى مختلف المحافل السياسية والإعلامية في العالم.

 

تميّز أبو عبيدة باستخدام أساليب إعلامية بسيطة جدًا، لكنها بالغة التأثير وعميقة الدلالة، تحفل بالمعاني والإشارات والعِبر.

 

فقد استخدم اللباس العسكري الأخضر المُرقّط، والكوفية الحمراء، والعصبة الخضراء، والصور أو الرسوم البسيطة المعبّرة، لكنها تحمل عمقًا في الشكل والمعنى، مثل رمزية المثلث الأحمر المقلوب.

 

غطّى أبو عبيدة كامل وجهه باستثناء عينيه، ورفع سبّابته، واستخدمها كثيرًا عند اللزوم.

 

الشكل الذي اختاره أبو عبيدة لنفسه ينطلق من عمق البعد الإسلامي والتراث الفلسطيني، والأصالة الوطنية الجامعة، وهو امتداد لنضال الشعب الفلسطيني وثوراته المتواصلة، وتاريخه التراكمي في مقاومة الاستعمار والاحتلال.

 

كانت خطاباته عبارة عن نصوص دينية وأدبية وفكرية عميقة، استشهد فيها بالآيات القرآنية، وأبيات من الشعر، ونصوص من الموروث الأدبي.

 

مفردات محبوكة، مختارة بعناية، هي باختصار نص أدبي فني متقن، أرقى من أن تكون إطلالة إعلامية، وأعلى من أن تكون بيانًا توجيهيًا، وهنا ظهر أبو عبيدة، كما ظهرت كتائب القسام، على أنهم يحترمون عقل المتلقي، أيًّا كانت جنسيته، ومهما كانت خلفيته الثقافية.

 

صوت أبو عبيدة الهادئ، الدافئ، العميق، والمؤثّر خدم المحتوى الذي أراد إيصاله.

 

تمتّع أبو عبيدة بالمصداقية والمهنية والموضوعية والشفافية، فأسلوبه الصادق في تقديم المعلومة الحقيقية الموثّقة، وفيديوهاته المرفقة بالأدلة، والمشهدية المترافقة مع السرد، منحته احترامًا عالميًا كبيرًا ومصداقية واسعة.

 

كانت خطابات أبو عبيدة، والمعلومات التي يقدّمها، تحظى بالاحترام والقبول والمصداقية لدى مختلف الأطراف المعنية بالتطورات في غزة، ومواقف حماس والقسام.

 

لم يتعمّد التضليل أو المبالغة، ولم يستخدم روايات كاذبة، وكانت خطاباته تحتوي على أحداث مثبتة بالمكان والزمان والدليل الموثّق، وغالبًا المصوَّر.

 

منح أبو عبيدة مشروع المقاومة دعمًا هائلًا وشعبية كبيرة، وساهم بشكل كبير في إظهار بطولات المقاومين وعمليات كتائب القسام، وبثّ مشاهد تفجير الدبابات، وقصف الصواريخ، والانقضاض على قوات الاحتلال، والصعود فوق ناقلات الجند، وزرع العبوات، ومهاجمة جنود الاحتلال وقنصهم، وعمليات الإغارة، أو سحب آليات الاحتلال المدمّرة.

 

مع أبو عبيدة ظهر الجندي الإسرائيلي على حقيقته: جبانًا، خائفًا، منهزمًا، فارًّا من المعركة، منهارًا، منهكًا، مولّيًا الدبر.

 

ضرب أبو عبيدة ركائز المشروع الصهيوني، وحطّم الرواية الإعلامية التاريخية للاحتلال، وفضح الفكرة الصهيونية، وأثبت زيف الدعاية الإسرائيلية، وأبطل مفاعيل السردية الإسرائيلية، وحطّم الاستراتيجيات الإعلامية لحكومة نتنياهو.

 

وبأسلوبه العميق والبسيط والصادق والمهني، تفوّق أبو عبيدة على الآلة الإعلامية الإسرائيلية، ونجح في التقدّم على الأجهزة الإعلامية الإسرائيلية في رئاسة الوزراء، ووزارتي الخارجية والدفاع، والجيش الإسرائيلي، والأجهزة الأمنية، ومختلف وسائل الإعلام الإسرائيلية التي تمتلك موازنات ضخمة جدًا، وعلاقات دولية واسعة، وتحالفات إعلامية كبيرة.

 

لقد تفوّق أبو عبيدة بأشواط كبيرة على المتحدثين باسم جيش الاحتلال الإسرائيلي، مثل دانيال هاغاري، وأفيخاي أدرعي، وإيفي ديفرين، وغيرهم.

 

امتلك أبو عبيدة قدرة تأثيرية هائلة على المجتمع الإسرائيلي، فكان يرسل المعلومات التي تساهم في إضعاف روحه المعنوية، وإضعاف ثقته بحكومته وجيشه، وتساهم في وضع جدول أعمال لتحركات شعبية تُضعف الموقف الإسرائيلي، وتُظهر حالة الانقسام داخل المجتمع الصهيوني، كما تُظهر انحدار معنويات جيش الاحتلال، وتقدّم الأدلة على خسائره وإخفاقاته.

 

استخدم أبو عبيدة مرارًا قضية الأسرى الإسرائيليين لدى المقاومة للتأثير في المجتمع الإسرائيلي، وتحويل هذه القضية إلى رأس جدول أعمال الجمهور، وشدّ عصب التحركات المناهضة لحكومة نتنياهو، خاصة أن كتائب القسام تتعمّد بثّها يومي الجمعة أو السبت، وهما موعدا التظاهرات.

 

أهم ما ظهر للعالم، واستنتجه المراقبون السياسيون والأمنيون والإعلاميون، أن الجهاز الإعلامي لكتائب القسام يفهم بعمق الوضع الإسرائيلي الداخلي، ومطّلع على حقيقة المجتمع الإسرائيلي ونفسيته وعقليته، وأن حماس تقرأ التفكير الإسرائيلي بشمولية، وتدرك توازناته ومعادلاته، وتحسن التدخل فيه والتأثير والتلاعب به.

 

في الوقت نفسه الذي كان فيه أبو عبيدة يحظى بالتقدير والاهتمام العالمي، ويستثير غضب وكراهية الاحتلال الإسرائيلي، كانت هناك فئة فلسطينية وأخرى عربية يغيظها أبو عبيدة، وتزعجها صورته، وتغضبها سبّابته، وتؤرقها نبرة صوته.

 

لم تتردّد هذه الفئة في الإساءة إليه، وتوجيه الانتقادات المعيبة بحقه.

 

ويعود ذلك إلى قدرة أبو عبيدة على فضح سلوكهم وتقاعسهم وتخاذلهم، ولذلك كان ظهوره يسبّب ألمًا عميقًا لهذه الفئة المستسلمة الخانعة.

 

لقد تفوّق أبو عبيدة على كافة المتحدثين العسكريين في العالم، وتميّز عنهم بأسلوبه وشخصيته ونبرة صوته وشكله والمضمون الذي يقدّمه.

 

أصبح أبو عبيدة نموذجًا فلسطينيًا عالميًا، وأيقونة للمقاومة، وملهمًا للأجيال.

 

لقد استطاعت كتائب القسام، مع أبو عبيدة، أن تؤسّس نهجًا جديدًا للإعلام النفسي والتعبئة الإعلامية.

 

إن صورة أبو عبيدة الجميلة والرائعة تعبّر اليوم أصدق تعبير عن صورة الشعب الفلسطيني، وصورة مقاومته الباسلة التي تغيّر العالم، وتؤثّر في الشعوب والشباب، وتقود التحولات في الرأي العام العالمي، وهو ما يجعل من زوال الاحتلال مسألة وقت، فيما يقترب انتصار الشعب الفلسطيني ومقاومته على الاحتلال والإرهاب بشكل نهائي.

 

غاب أبو عبيدة جسدًا، لكنه حاضر بنهجه الذي عبّر عنه الأخ أبو عبيدة الجديد بكل نجاح واقتدار.