لم يكن عام 2025 في التاريخ المصري الحديث مجرد محطة زمنية عابرة، بل كان عام السقوط الاستراتيجي المدوي، والعام الذي أُعلنت فيه وفاة "الدور المصري" إكلينيكياً في ساحات الشرق الأوسط وأفريقيا.

 

فبينما كانت نيران الحروب تعيد رسم خرائط المنطقة بالحديد والدم، من الخليج إلى المتوسط، وقفت مصر—التي كانت يوماً قلب العروبة ودرعها—موقف "المتفرج العاجز"، منزوعة الإرادة، مسلوبة القرار، ومكبلة بأغلال الديون والفشل الداخلي.

 

إنه عام "الإفلاس السياسي" الكامل، حيث تحولت القاهرة من "صانع ملوك" ولاعب لا يمكن تجاوزه، إلى دولة "وظيفية" تكتفي بحراسة حدود الآخرين وتلقي التعليمات.

 

في هذا الملف الأسود، نوثق بالتواريخ والوقائع كيف انهار الأمن القومي المصري، وكيف أصبحت السيادة مجرد شعار للاستهلاك المحلي، بينما الواقع يقول إن مصر باتت محاصرة، مهددة، وخارج الخدمة تماماً.

 

الحرب الكبرى (أمريكا-إسرائيل-إيران): الغياب "الفاضح" في لحظة المصير

 

في يونيو 2025، اشتعلت المنطقة بما وصف بـ"حرب الـ 12 يوماً" (من 13 إلى 24 يونيو)، وهي المواجهة العسكرية المباشرة والأخطر بين التحالف الأمريكي-الإسرائيلي والمحور الإيراني.

 

بدأت الحرب بهجوم إسرائيلي كاسح فجر الجمعة 13 يونيو على أهداف إيرانية، وتوجت بتدخل أمريكي مباشر فجر 22 يونيو عبر عملية "مطرقة منتصف الليل" التي استهدفت منشآت نووية في "فوردو" و"نطنز".

 

في خضم هذه النار التي كادت تحرق الإقليم، كان الموقف المصري "فضيحة جيوسياسية". غابت القاهرة كلياً عن غرفة العمليات وعن طاولات التفاوض التي تلت الحرب.

 

بينما كانت عواصم إقليمية أخرى (مثل الدوحة وأنقرة) تلعب أدواراً محورية في التهدئة والوساطة، اكتفت الخارجية المصرية ببيانات باهتة تدعو لـ "ضبط النفس"، في مشهد وصفه مراقبون بأنه "انسحاب استراتيجي" واعتراف ضمني بخروج مصر من معادلة الردع.

 

لم تكن مصر شريكاً ولا حتى وسيطاً مؤثراً، بل كانت مجرد "متلقٍ" لارتدادات الحرب الاقتصادية والأمنية، بلا حول ولا قوة.

 

ليبيا: حدود مشتعلة وعلاقات "هشة" مع الجار الغربي

 

لم تكن الجبهة الغربية أفضل حالاً. شهد عام 2025 توتراً متصاعداً مع حكومة طرابلس (الدبيبة)، وصل لحد القطيعة الدبلوماسية المكتومة.

 

ورغم محاولات التقارب السابقة، إلا أن القاهرة اصطدمت بحائط سد، حيث اعتبرت دوائر في طرابلس أن الدور المصري "معرقل" ومحسوب بالكامل على معسكر الشرق (حفتر).

 

النتيجة كانت كارثية على العمالة المصرية والاقتصاد؛ فقد واجه المصريون في ليبيا إجراءات مشددة ومضايقات أمنية، في ظل عجز حكومي مصري عن حمايتهم أو فرض شروط تضمن كرامتهم.

 

تحولت ليبيا من عمق استراتيجي وسوق واعد للعمالة، إلى ساحة تصفية حسابات، حيث فقدت مصر نفوذها التقليدي لصالح لاعبين آخرين (تركيا وروسيا) باتوا هم أصحاب الكلمة العليا في تقرير مصير الجار الغربي، بينما اكتفت مصر بدور "المراقب القلق" الذي يخشى تدفق السلاح والمرتزقة عبر حدوده الرخوة.

 

تركيا: "صداقة الضرورة"

 

في ملف العلاقات مع تركيا، شهد عام 2025 ما سمي بـ "التقارب الاضطراري". ورغم الحديث الدبلوماسي عن "صفحة جديدة"، إلا أن الواقع كشف عن خلل فادح في موازين القوى.

 

التقارب لم يأتِ من موقع الند للند، بل جاء كإقرار مصري بالأمر الواقع الذي فرضته أنقرة في ليبيا وشرق المتوسط.

 

تركيا واصلت ترسيخ تواجدها العسكري في الغرب الليبي، وعززت نفوذها باتفاقيات تعاون عسكري (يونيو 2025) شملت حتى أطرافاً كانت محسوبة على القاهرة (مثل زيارة صدام حفتر لتركيا).

 

لقد نجحت أنقرة في تطويق مصر استراتيجياً، وباتت هي من تمسك بمفاتيح الحل والعقد في الملف الليبي، بينما تراجعت مصر لتقبل بدور "الشريك الثانوي" الذي يسعى لتهدئة الخواطر التركية لضمان مصالحه الاقتصادية في الغاز، متنازلة فعلياً عن "خطوطها الحمراء" السابقة في سرت والجفرة.

 

السودان: السقوط الكبير في "الحديقة الخلفية"

 

على الحدود الجنوبية، كانت الكارثة أشد وطأة. استمرت الحرب في السودان طوال 2025، ومعها استمر "العجز المصري الكامل".

 

الدولة التي كانت تعتبر السودان جزءاً لا يتجزأ من أمنها القومي، وقفت تتفرج على تمزق الخرطوم، عاجزة عن دعم الجيش السوداني (حليفها التقليدي) بشكل حاسم، أو حتى تأمين حدودها من فوضى الميليشيات.

 

تحول السودان إلى ملعب لقوى إقليمية معادية للمصالح المصرية، وباتت القرارات المصيرية في الخرطوم تُطبخ بعيداً عن القاهرة.

 

هذا الفشل الذريع لم يهدد فقط الأمن المائي (عبر إضعاف الموقف السوداني في ملف السد)، بل حول الحدود الجنوبية إلى جرح نازف يهدد بتصدير الإرهاب واللاجئين، لتخسر مصر عمقها الاستراتيجي الأول وتصبح محاصرة من الجنوب بدولة فاشلة ومن الشرق بكيان محتل.

 

القرن الأفريقي وإثيوبيا: الهزيمة المائية والسياسية

 

أما في القرن الأفريقي، فقد أكملت إثيوبيا في 2025 مشروع هيمنتها، موجهة ضربة قاضية للنفوذ المصري.

 

أديس أبابا لم تكتفِ بفرض الأمر الواقع في سد النهضة (الذي انتهت مفاوضاته فعلياً بالفشل)، بل تمددت لتوقع اتفاقيات وصول للبحر الأحمر (أرض الصومال)، محاصرة مصر بحرياً ومائياً.

 

الرد المصري كان "صفرياً".

 

لم تنجح القاهرة في حشد تحالف أفريقي واحد، ولم تفلح تحركاتها في مقديشو في وقف التغول الإثيوبي.

 

انتهى العام ومصر "عطشى" ومحاصرة، بينما أثبتت إثيوبيا أنها باتت القوة الإقليمية الصاعدة التي تفرض شروطها، في ظل غياب تام لأي استراتيجية مصرية للمواجهة أو الردع.

 

محور فيلادلفيا: السيادة المستباحة.. والحدود "تحت الوصاية"

 

لم يكن مشهد الدبابات الإسرائيلية على الشريط الحدودي الفاصل بين مصر وغزة خلال 2025 مجرد خرق عسكري، بل كان إعلاناً صريحاً بوفاة "السيادة المصرية الكاملة" على الحدود الشرقية.

 

لقد تحول محور فيلادلفيا، الذي طالما وصفته القاهرة بأنه "خط أحمر"، إلى منطقة عمليات مفتوحة لجيش الاحتلال، يفرض فيها قواعد الاشتباك ويحدد من يدخل ومن يخرج.

 

الصمت الرسمي المصري أمام هذا الاحتلال الناعم لم يكن "حكمة" بل كان "عجزاً" مفروضاً؛ فالنظام الذي كبل نفسه باتفاقيات وتفاهمات أمنية سرية، وجد نفسه عاجزاً عن حماية ترابه الوطني أمام الغطرسة الإسرائيلية.

 

لقد تحولت مصر فعلياً إلى "حارس خلفي" للأمن الإسرائيلي، تكتفي بدور المناولة اللوجستية للمساعدات، وتغض الطرف عن العربدة العسكرية على بعد أمتار من جنودها، في سابقة تاريخية أسقطت هيبة الدولة وأكدت أن الأمن القومي المصري بات يُدار من "الكرياه" في تل أبيب، وليس من قصر الاتحادية.

 

الداخل: برلمان "المخابرات" وهندسة الفراغ السياسي

 

وبينما كانت الدولة تتآكل من أطرافها، كان النظام مشغولاً في الداخل بمعركة واحدة: "تأميم السياسة" وإغلاق المجال العام بالشمع الأحمر.

 

انتخابات مجلس النواب 2025 لم تكن استحقاقاً دستورياً، بل كانت "عملية أمنية" بامتياز، أدارتها الأجهزة من الألف إلى الياء.

 

هندسة القوائم المغلقة المطلقة، واستبعاد أي صوت وطني حر، وتوزيع المقاعد كـ "مكافآت ولاء" على المرضي عنهم أمنياً، أنتجت "مسخاً سياسياً" يسمى مجازاً برلماناً.

 

هذا المجلس، الذي صُمم ليكون "سكرتارية" للحكومة، هو الدليل الدامغ على رعب النظام من أي مساءلة.

 

في عام الإفلاس السياسي، احتاج السيسي إلى برلمان "أبكم" يمرر قرارات بيع الأصول، ويشرعن التنازلات السيادية، ويصفق للكوارث الاقتصادية.

 

لم تعد هناك حياة سياسية في مصر، بل "مسرحية" رديئة الإخراج، أبطالها كومبارس تم اختيارهم بعناية في الغرف المغلقة، لضمان أن يظل صوت الشعب مخنوقاً، وأن تظل قرارات المصير الوطني حكراً على فرد واحد لا شريك له، في مشهد يعيد للأذهان برلمانات القرون الوسطى.

 

الدبلوماسية والسمعة: غلق السفارات.. إعلان الإفلاس الرسمي

 

ختام المشهد الكارثي في 2025 كان الأنباء المتواترة والقرارات الفعلية بتقليص التمثيل الدبلوماسي وغلق قنصليات وسفارات مصرية في الخارج بدعوى "ترشيد النفقات".

 

هذا الإجراء ليس مجرد توفير بضعة ملايين من الدولارات، بل هو إعلان رسمي عن "تقزم" الدولة المصرية وانسحابها من الساحة الدولية.

 

الدولة التي كانت تفخر بأنها تمتلك واحدة من أعرق وأوسع الشبكات الدبلوماسية في العالم، باتت عاجزة عن دفع رواتب دبلوماسييها أو إيجار مقراتها.

 

غلق السفارات هو الرمز الأصدق لـ "مصر السيسي": دولة تنسحب من العالم، تنغلق على أزماتها، وتتنازل طواعية عن نفوذها وقوتها الناعمة التي بنتها عبر عقود.

 

إنه إعلان إفلاس سياسي ومعنوي يوازي الإفلاس المالي، ورسالة للعالم بأن مصر لم تعد تلك القوة القادرة على الفعل أو التأثير، بل دولة "تصارع من أجل البقاء" بالحد الأدنى من مقومات الحياة.

 

هذه الخطوة تعني عملياً ترك الجاليات المصرية في مهب الريح، وترك الساحات الدبلوماسية فارغة ليملأها الخصوم والمنافسون، في تكريس لسياسة "الانكفاء" التي دمرت مكانة مصر الدولية.

 

الخلاصة: عام 2025 هو عام "سقوط الأقنعة"

 

مصر لم تعد "أم الدنيا" ولا "قد الدنيا"، بل دولة محاصرة بحدود مشتعلة، ونظام مفلس سياسياً واقتصادياً، وجيش من الدبلوماسيين العاطلين عن العمل.

 

إنه عام الانتحار الاستراتيجي، والعام الذي دفعت فيه مصر ثمن "الجمهورية الجديدة" من رصيد كرامتها وسيادتها ومستقبل أجيالها.