في حلقة جديدة من مسلسل التهجير القسري الذي بات السمة الأبرز للجمهورية الجديدة المزعومة، استيقظ أهالي "عزبة أبو مشعل" بمحافظة الدقهلية على كابوس لم يكن في الحسبان. بعد أربعين عامًا من الاستقرار وبناء الأسر والبيوت، وجد السكان أنفسهم فجأة في مواجهة آلة البطش الحكومية التي قررت، بجرة قلم، نزع ملكية أراضيهم ومنازلهم، ملقية بهم إلى المجهول.
المأساة هنا ليست مجرد قرار إخلاء، بل هي عملية "نهب ممنهج" لأموال المواطنين، حيث يتم الاستيلاء على عقارات تقدر قيمتها السوقية بالملايين، مقابل حفنة من الجنيهات لا تكفي لبناء "عشة" في الصحراء، في مشهد يعيد للأذهان نكبات التهجير التي طالت الوراق ونزلة السمان وغيرها من بقع مصر المنكوبة بنظام لا يرى في المواطن سوى رقم يمكن شطبه بجرافة.
"السرقة المقننة".. 3 ملايين قيمة حقيقية و100 ألف "صدقة" حكومية
تتجلى قمة الفجور في التعامل مع ملف "عزبة أبو مشعل" في الفجوة الفلكية بين القيمة الحقيقية للممتلكات والتعويضات الهزيلة التي أقرتها لجان التثمين الحكومية. فبينما يؤكد الخبراء وسماسرة العقارات في المنطقة أن القيمة السوقية للمنزل الواحد في العزبة تتجاوز 3 ملايين جنيه نظراً لموقعه والخدمات والمرافق التي أنفق عليها الأهالي "دم قلوبهم" طوال عقود، جاءت تقديرات المحكمة والحكومة لتصفع الجميع بمبلغ لا يتجاوز 100 ألف جنيه.
هذا التقدير العبثي ليس مجرد خطأ إداري، بل هو سياسة متعمدة لتقليل تكلفة المشاريع أو الاستيلاء على الأراضي بأبخس الأثمان، استنادًا إلى قوانين نزع الملكية للمنفعة العامة سيئة السمعة (القانون رقم 10 لسنة 1990 وتعديلاته) التي تتيح للدولة تحديد سعر المتر وفقاً لـ "القيم الدفترية" القديمة التي أكل عليها الدهر وشرب، متجاهلة التضخم الجنوني وانهيار العملة الذي تسببت فيه السياسات الاقتصادية الفاشلة للنظام الحالي. إن عرض 100 ألف جنيه كتعويض عن منزل عائلي في 2025 هو بمثابة حكم بالإعدام المعيشي على الأسرة، فهو مبلغ لا يشتري اليوم "غرفة واحدة" في المناطق العشوائية، ناهيك عن توفير سكن كريم بديل، مما يؤكد أن الهدف الحقيقي ليس المنفعة العامة، بل "الجباية" ونزع الثروة من يد المواطن البسيط لصالح خزانة دولة لا تشبع.
فخ الأربعين عامًا.. القضاء كأداة لشرعنة التهجير
ما يحدث في "عزبة أبو مشعل" يكشف عن وجه قبيح آخر للمنظومة، وهو استخدام القضاء والبيروقراطية كأدوات لشرعنة سلب الحقوق. فالأهالي الذين اشتروا هذه الأراضي وسكنوها منذ 40 عامًا، لم يكونوا مغتصبين أو واضعي يد، بل اشتروا بحر مالهم وعاشوا في أمان تحت سمع وبصر الدولة التي كانت تحصّل منهم المرافق والضرائب طوال تلك العقود. وفجأة، وبعد أن عمرت الأرض وارتفع ثمنها، تذكرت "جهات سيادية" أو "أوقاف" أو "إصلاح زراعي" أن هناك خلافاً قانونياً على الملكية.
إن ظهور "المالك الجديد" أو النزاع القضائي بعد أربعة عقود هو "كمين" حكومي محكم. فبدلاً من أن تحمي الدولة استقرار مواطنيها وتقنن أوضاعهم -كما تفعل مع كبار المستثمرين ورجال الأعمال الذين تخصص لهم آلاف الأفدنة بالأمر المباشر- تختار الدولة الحل الأمني والقضائي لطرد الفقراء. الأحكام التي تصدر بالإخلاء أو نزع الملكية في مثل هذه الحالات تتجاهل تماماً الواقع المستقر وحقوق الحيازة الطويلة (التقادم المكسب للملكية)، وتستند إلى نصوص جامدة تتيح للسلطة استرداد ما تراه حقاً لها ولو على حساب تشريد المئات. إنه توظيف للقانون لخدمة "البلطجة الرسمية"، حيث يصبح المواطن مذنباً لأنه وثق في استقرار الدولة، ليجد نفسه في خريف عمره متهماً بالتعدي على أرض عاش فيها عمره كله.

