بينما يستعد "شعب" العاصمة الإدارية الجديدة لاستقبال العام الجديد باحتفالات صاخبة تحت أضواء "البرج الأيقوني"، يودع "شعب" آخر عامه بالدموع والسواد في قرى الدلتا والصعيد. مشهدان متناقضان يلخصان الحالة المصرية الراهنة؛ أحدهما يرقص على أنغام الرفاهية المحصنة، والآخر يغرق في مياه المتوسط أو يئن تحت وطأة الديون والجوع. وبين الإعلان عن نفاد تذاكر حفل رأس السنة في العاصمة الجديدة، وبين وصول جثامين 14 شابًا مصريًا ابتلعهم البحر قرب سواحل أثينا، تتسع الهوة وتترسخ مقولة "انتوا شعب واحنا شعب" كواقع مرير لا يمكن إنكاره.

 

كرنفال العاصمة: تذاكر نافدة ورفاهية معزولة

 

في تصريحات تعكس انفصالًا تامًا عن الواقع المعيشي لغالبية المصريين، أعلن المهندس خالد عباس، رئيس شركة العاصمة الإدارية للتنمية العمرانية، عن نفاد تذاكر حفل رأس السنة المزمع إقامته في محيط منطقة الأبراج والبرج الأيقوني. الاحتفالية التي ستمتد من الظهيرة حتى منتصف الليل، وُصفت بأنها حدث عالمي يضاهي احتفالات دبي ونيويورك، وسط دراسة إمكانية زيادة أعداد الحضور نظرًا للإقبال الشديد. هذا الإقبال الكثيف على تذاكر باهظة الثمن يكشف عن وجود طبقة اجتماعية تمتلك فائضًا من المال والقدرة على "الفرح"، تعيش في فقاعة منعزلة تمامًا عن محيطها.

 

هذا "الشعب" الذي يسكن العاصمة الجديدة أو يرتادها، لا تشغله أسعار السلع الأساسية، ولا يؤرقه انقطاع الكهرباء أو البحث عن طوابير السكر والأرز. إنه شعب يستعد للرقص تحت أطول برج في أفريقيا، محتفيًا بإنجازات "الجمهورية الجديدة" التي صممت خصيصًا لرفاهيته، حيث البنية التحتية الذكية، والحدائق الغناء، والأمن المستتب، بعيدًا عن ضجيج "الجمهورية القديمة" وأوجاعها. نفاد التذاكر هنا ليس مجرد خبر ترفيهي، بل هو مؤشر اقتصادي واجتماعي خطير يؤكد أن الثروة تتركز في يد قلة، بينما الأغلبية تصارع من أجل البقاء.

 

قوارب الموت: حلم الهجرة وكابوس الغرق

 

على النقيض تمامًا، وفي نفس التوقيت الذي تُنصب فيه المسارح وتُجهز فيه الألعاب النارية في العاصمة الإدارية، كانت بيوت في محافظات مصرية مختلفة تتشح بالسواد. فقبل أيام قليلة، استقبلت مصر جثامين 14 شابًا قضوا نحبهم غرقًا قبالة سواحل اليونان بعد غرق مركب هجرة غير نظامية كان يقلهم بحثًا عن "حياة" افتقدوها في وطنهم. هؤلاء الشباب لم يحلموا بحضور حفل في البرج الأيقوني، ولم تكن طموحاتهم تتجاوز سداد ديون أسرهم، أو بناء منزل بسيط، أو توفير قوت يومهم بكرامة.

 

قصة غرق الـ 14 شابًا ليست حادثة عابرة، بل هي نزيف مستمر لشباب يفضلون احتمالية الموت في البحر على يقين الموت البطيء فقرًا وكمدًا في الوطن. هؤلاء هم أبناء "الشعب الآخر"؛ الشعب الذي لا يملك ثمن تذكرة العاصمة، بل يبيع "ذهب والدته" أو يقترض بفوائد ربوية ليدفع لسمسار الهجرة ثمن تذكرة الموت. الفارق بين التذكرتين مرعب: تذكرة ترفيه تنفد فور طرحها في العاصمة، وتذكرة هجرة تنتهي بصاحبها جثة هامدة في ثلاجة موتى بأثينا أو طعامًا للأسماك. هذا التباين يضرب في الصميم أي حديث عن العدالة الاجتماعية أو وحدة المصير.

 

اقتصاد الديون: جوع يطارد الأغلبية وثراء فاحش للأقلية

 

الرابط بين احتفالات العاصمة الإدارية وجثث غرقى أثينا يمر حتمًا عبر الحالة الاقتصادية المتردية التي تعيشها البلاد. فبينما تتحدث الحكومة عن مشروعات عملاقة وتنمية مستدامة، يرزح المواطن العادي تحت وطأة ديون خارجية وداخلية غير مسبوقة، تسببت في تآكل قيمة العملة وارتفاع جنوني في الأسعار، مما دفع الملايين إلى حافة الجوع. هذه السياسات الاقتصادية هي التي خلقت "الطبقتين": طبقة تستفيد من عقود المقاولات والمضاربات وتعيش في العاصمة الجديدة والمنتجعات الساحلية، وطبقة تدفع فاتورة الإصلاح الاقتصادي من لحمها الحي.

 

إن مشهد الاحتفال القادم في العاصمة الإدارية لا يمكن فصله عن مشهد الجنازات في القرى. إنه تجسيد حي لانعدام الأولويات؛ حيث يُنفق المليارات على مظاهر الفخامة والتباهي، بينما يعجز النظام الصحي والتعليمي عن تلبية احتياجات الفقراء، وتعجز المصانع عن استيعاب العاطلين الذين ينتهي بهم المطاف على قوارب الموت. رسالة العام الجديد تأتي واضحة وقاسية: هناك مصر للأغنياء تضيء سماءها الألعاب النارية، وهناك مصر للفقراء تضيء بيوتها دموع الأمهات الثكالى، وبينهما هوة سحيقة لا يبدو أنها ستردم قريبًا.