في خطوة أثارت جدلاً واسعًا واعتُبرت تمهيدًا صريحًا لرفع جديد في أسعار الوقود، أعلنت الحكومة المصرية تخصيص نحو 445 مليون دولار لاستيراد شحنات من النفط الخام خلال الربع الأخير من عام 2025، في وقت تشهد فيه البلاد ضغوطًا اقتصادية غير مسبوقة وارتفاعًا حادًا في فاتورة الواردات البترولية. ويبدو أن هذا القرار ليس سوى حلقة جديدة في سلسلة الإجراءات التي تنتهجها الحكومة لمعالجة أزماتها عبر الاقتراض والاستيراد، على حساب المواطن الذي يتحمل وحده تبعات ما يسمى بـ"الإصلاح الاقتصادي".
أزمة متصاعدة وفاتورة قياسية
تشير الأرقام الرسمية إلى أن مخصصات استيراد النفط الخام ارتفعت بنسبة 64% مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي، لتقفز من 210 ملايين دولار إلى 445 مليون دولار. هذا التصاعد ليس طارئًا، بل يمثل امتدادًا لنهجٍ يعتمد على الاستيراد لتغطية الفجوة بين الإنتاج المحلي المحدود والاستهلاك المتزايد. فبرغم حصول الهيئة العامة للبترول على كامل إنتاج البلاد، الذي يتراوح بين 500 و510 آلاف برميل يوميًا، لا يزال هذا الإنتاج عاجزًا عن تلبية الاحتياجات، مما يدفع الدولة إلى استنزاف ما تبقى من احتياطي النقد الأجنبي لاستيراد المزيد من الخام والمشتقات البترولية.
تؤكد بيانات البنك المركزي أن الواردات البترولية ارتفعت خلال العام المالي الماضي إلى مستويات تاريخية، مع زيادة واردات المنتجات النهائية — مثل البنزين والسولار — بأكثر من 1.7 مليار دولار. هذه القفزات المتواصلة في فاتورة الطاقة تكشف إخفاق الحكومة في إدارة ملف حيوي يرتبط بالأمن القومي الاقتصادي، وتثير تساؤلات حول مصير الوعود بتحويل مصر إلى "مركز إقليمي للطاقة"، في وقت لا تزال فيه الدولة عاجزة عن تحقيق الاكتفاء الذاتي من النفط ومشتقاته.
إملاءات صندوق النقد.. والمواطن هو الضحية
تسعى الحكومة لتبرير قراراتها الأخيرة بأنها استحقاقات ضمن برنامجها مع صندوق النقد الدولي، الذي يشترط خفض دعم الطاقة و"ترشيد الاستهلاك" كجزء من خطة الإصلاح المالي. لكن النتيجة الفعلية لهذه السياسات كانت ثلاث زيادات متتالية في أسعار الوقود العام الماضي، تبعتها رابعة في أبريل 2025، فيما تلوح في الأفق زيادة خامسة مرتقبة مع اقتراب نهاية العام.
ما تصفه الحكومة بـ"إصلاح اقتصادي" ليس سوى استجابة حرفية لإملاءات المقرضين الدوليين، تنقل عبء سوء الإدارة من الدولة إلى المواطن. فرفع الدعم دون توفير بدائل واقعية أو شبكات حماية اجتماعية فعالة يعني ببساطة تفاقم معاناة الطبقات الفقيرة والمتوسطة. إذ يؤدي أي ارتفاع في أسعار البنزين أو السولار إلى زيادة مباشرة في تكاليف النقل والمواصلات، ومن ثم في أسعار السلع الغذائية والخدمات الأساسية، مما يفاقم معدلات التضخم ويقوض القدرة الشرائية للأسر المصرية التي تكاد لا تحتمل مزيدًا من الضغوط.
سوء إدارة وغياب للشفافية
في خلفية هذه القرارات، تتكشف أزمة سيولة خانقة تعانيها هيئة البترول، التي تسعى — بحسب مصادر داخلية — للحصول على تسهيلات في السداد تمتد من ثلاثة إلى ستة أشهر من بعض الدول الخليجية الموردة للنفط. هذه الترتيبات تكشف هشاشة الوضع المالي وتؤكد أن الحكومة تسير بخطوات مرتجفة على حافة العجز الكامل عن تمويل احتياجاتها النفطية.
وما يزيد الصورة قتامة هو غياب الشفافية في إدارة هذا الملف الحساس. فالمواطنون لا يعلمون إلا عبر تسريبات محدودة أو تصريحات مبهمة، بينما تبرم الحكومة صفقات بمئات الملايين من الدولارات في الخفاء. والمفارقة أن الدولة التي تبرر رفع الأسعار بزعم "نقص الموارد" هي نفسها التي تنفق ببذخ على الاستيراد، دون أن تقدم رؤية واضحة لتحقيق الاكتفاء أو تنمية الإنتاج المحلي.
ختامًا تعكس هذه التطورات أن الحكومة المصرية تواصل إدارة أزماتها عبر المسكنات المالية بدلًا من تبني إصلاحات حقيقية. فبدلًا من الاستثمار في مشروعات تنمية الطاقة المحلية أو ضبط الإنفاق العام، تلجأ إلى الحل الأسهل: تحميل المواطن فاتورة السياسات الخاطئة. ومع كل زيادة جديدة في أسعار الوقود، يتراجع مستوى المعيشة، وتتسع فجوة الثقة بين الشعب والدولة. وهكذا، يبدو أن "الإصلاح" الذي تروج له الحكومة ليس سوى إعادة توزيع للفشل، حيث يدفع المواطن دائمًا الثمن، فيما تظل بنية الاقتصاد رهينة الديون والإملاءات الخارجية.