تشهد مدينة الفاشر، آخر معاقل الجيش السوداني في إقليم دارفور، تصعيداً عسكرياً هو الأعنف منذ شهور، وسط مخاوف متزايدة من كارثة إنسانية غير مسبوقة، فيما تتوسع رقعة المواجهات نحو محاور جديدة في إقليم كردفان، في مؤشر على انتقال الحرب السودانية إلى مرحلة أكثر خطورة بعد مرور نحو 18 شهراً على اندلاعها بين الجيش وقوات الدعم السريع.
معارك ضارية في قلب الفاشر
تحولت الفاشر، التي كانت حتى وقت قريب ملاذاً نسبياً للمدنيين، إلى جبهة مشتعلة تتقاذفها نيران المدفعية والطائرات المسيّرة. فقد أعلن الجيش السوداني، يوم الأحد، عن إحباط هجوم واسع شنّته قوات الدعم السريع على دفاعاته في الجهة الغربية من المدينة، استُخدمت فيه الدبابات والمركبات المصفّحة والقصف الجوي بالطائرات المسيّرة. واستهدفت الهجمات مقاراً عسكرية حساسة، أبرزها مقر الفرقة السادسة مشاة، والسلاح الطبي، وحول الإشارة، وحي المهندسين.
وأفادت مصادر عسكرية بأن الاشتباكات استمرت لساعات طويلة، استخدمت فيها كل أنواع الأسلحة الثقيلة. وأكد بيان صادر عن قيادة الفرقة السادسة أن القوات الحكومية، مدعومة بوحدات من الجيش والشرطة والحركات المسلحة الموقعة على اتفاق جوبا، تمكنت من صدّ الهجوم وإلحاق خسائر كبيرة بالمهاجمين، شملت تدمير دبابات وآليات، ومقتل ما لا يقل عن مئة عنصر من الدعم السريع.
لكن في المقابل، تحدث شهود عيان عن دمار واسع في الأحياء السكنية المحيطة بمناطق الاشتباك، حيث تساقطت القذائف بشكل عشوائي على مناطق مأهولة، وأجبرت آلاف العائلات على البقاء داخل منازلها دون كهرباء أو ماء أو غذاء.
كارثة إنسانية وشيكة
يتدهور الوضع الإنساني في الفاشر بشكل متسارع، في ظل استمرار القصف وانقطاع الإمدادات الغذائية والطبية. وأفاد سكان محليون بأن الأسواق مغلقة بالكامل منذ أيام، فيما توقفت “التكايا” – وهي المطابخ المجانية التي كانت تقدم وجبات يومية للفقراء والنازحين – عن العمل بسبب نفاد المؤن وانعدام الوقود.
وقال محيي الدين شوقار، أحد القائمين على إحدى هذه التكايا، في نداء استغاثة عاجل، إن المدينة “على حافة المجاعة”، مضيفاً أن آلاف الأسر محاصرة بلا طعام أو دواء، وأن الأوضاع تتطلب تدخلاً عاجلاً من المنظمات الإنسانية عبر إسقاط المساعدات جواً وفتح ممرات آمنة.
وتؤكد تقارير ميدانية أن المستشفيات القليلة العاملة في المدينة تواجه شللاً شبه تام بسبب انقطاع الإمدادات الطبية ونقص الكوادر. وتحدثت مصادر طبية عن عشرات الجرحى الذين يفترشون الأرض في مستشفى السلاح الطبي وسط عجز تام عن إسعافهم.
إدانات واسعة للهجوم على النازحين
الهجوم الذي تعرض له مركز "دار الأرقم" لإيواء النازحين في حي الدرجة الأولى بطائرة مسيرة مساء السبت، والذي أودى بحياة أكثر من 60 مدنياً، بينهم 17 طفلاً، فجّر موجة من الإدانات المحلية والدولية.
وأعرب مجلس السيادة السوداني عن استنكاره لما وصفه بـ“الصمت الدولي المخزي”، محملاً قوات الدعم السريع مسؤولية “جرائم حرب تُرتكب بشكل ممنهج وعلى أسس عرقية”. كما دعا إلى تحرك عاجل لمحاسبة المتورطين.
من جانبه، أكد مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) أن استهداف المدنيين والملاجئ يمثل “انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي الإنساني”، وطالب بإجراء تحقيق دولي شفاف. فيما وصفت المديرة التنفيذية لمنظمة "يونيسف"، كاثرين راسل، الهجوم بأنه “جريمة بشعة”، ودعت إلى حماية الأطفال والنساء من ويلات الحرب.
في المقابل، نفت قوات الدعم السريع في بيان رسمي أي علاقة لها بالهجوم، واعتبرت الاتهامات الموجهة إليها “جزءاً من حملة تضليل إعلامي يقودها الجيش لتبرير جرائمه ضد المدنيين في دارفور”.
امتداد المواجهات إلى كردفان
لم تقتصر الاشتباكات على دارفور. ففي إقليم كردفان، أعلن الجيش السوداني عن تنفيذ سلسلة من الغارات الجوية استهدفت مواقع الدعم السريع في مدن سودري والنهود والخوي. وأكدت مصادر عسكرية تدمير مخازن أسلحة وآليات قتالية في تلك المناطق.
وفي تطور لافت، تعرضت مدينة أبو جبيهة بجنوب كردفان، الخاضعة لسيطرة الجيش، لهجوم بطائرة مسيرة هو الأول من نوعه في الإقليم، استهدف مقراً للقوات المشتركة، مما يشير إلى توسع استخدام الدعم السريع للطائرات المسيّرة كجزء من تكتيكاتها الجديدة في القتال.
بلاد على حافة الانهيار
تبدو الحرب السودانية، مع تصاعدها في دارفور وكردفان، متجهة نحو مرحلة أكثر فوضوية وانفلاتاً. فالفاشر اليوم ليست مجرد مدينة محاصرة، بل رمز لانهيار الدولة في مواجهة ميليشيا تتوسع جغرافياً وتزداد قوة ميدانياً. وبينما يواصل المدنيون دفع الثمن الأكبر، تتعثر الجهود الدولية لوقف الحرب أمام تعقيدات المشهد الداخلي وتضارب مصالح القوى الإقليمية.
ومع غياب أي أفق سياسي للحل، يبقى السؤال الملح: هل يستطيع السودان النجاة من الانهيار الكامل، أم أن الفاشر ستكون بداية فصول جديدة من المأساة الممتدة؟