أثار تصريح وزير المالية بحكومة مصطفى مدبولي، أحمد كجوك خلال مشاركته في فعالية نظمتها الغرفة الألمانية العربية للصناعة والتجارة بمدينة فرانكفورت جدلاً واسعًا، بعدما أكد أن "الاقتصاد المصري أصبح أكثر انفتاحًا وتنافسية، وجذب 9.8 مليار دولار استثمارات أجنبية مباشرة بمعدل نمو 13% خلال 9 أشهر"، مضيفًا أن "القطاع الخاص استحوذ على 65% من هذه الاستثمارات".

تصريحات الوزير بدت في ظاهرها مؤشراً على تحسن اقتصادي، لكن قراءة دقيقة للأرقام ولواقع السوق المصري تكشف عن صورة مغايرة، بل مناقضة تمامًا.
 

ديون تتفاقم
أول ما يتجاهله الخطاب الرسمي هو حجم الديون التي باتت الملف الأخطر في الاقتصاد المصري. فبحسب بيانات وزارة المالية نفسها، تجاوز الدين الخارجي حاجز 172 مليار دولار منتصف 2025، بعد أن كان في حدود 43 مليار دولار فقط عام 2013. أما الدين المحلي، فقد قفز إلى أكثر من 7 تريليونات جنيه، ما يفرض أعباء خدمة دين هائلة تستنزف ما يقارب 55% من الإيرادات العامة للدولة سنويًا.

هذه الأرقام تجعل أي حديث عن "انفتاح وتنافسية" مجرد دعاية، إذ أن الاقتصاد المحمّل بالديون لا يملك مساحة حقيقية للمنافسة، بل يصبح مرهونًا لشروط الدائنين.
 

عجز تجاري ومالي متواصل
رغم وعود الحكومة المتكررة بزيادة الصادرات، إلا أن العجز التجاري يواصل الاتساع. ففي 2024، بلغ العجز التجاري أكثر من 47 مليار دولار، نتيجة ارتفاع فاتورة الواردات وضعف تنافسية الصادرات المصرية. كذلك يعاني العجز المالي من تفاقم مستمر، إذ سجل الموازنة العامة عجزًا تجاوز 6.9% من الناتج المحلي، وهو رقم يتناقض مع ادعاءات السيطرة على الإنفاق والعجز.

هذه المؤشرات توضح أن الحديث عن "نجاحات استثمارية" يخفي وراءه واقعاً من الانكشاف المالي الذي يضغط على العملة المحلية ويؤدي إلى موجات تضخم خانقة.
 

بيع الأصول تحت لافتة "الاستثمار"
النقطة الأكثر إثارة للجدل في خطاب الوزير هي تصنيف بيع الأصول الحكومية على أنه استثمار أجنبي مباشر. ففي الشهور الماضية، باعت الدولة حصصًا في شركات استراتيجية مثل الموانئ، شركات الأسمدة والطاقة، وحتى حصص في البنوك، من أجل الحصول على عملة صعبة لسداد الالتزامات الخارجية.

لكن اقتصاديين مستقلين يؤكدون أن بيع الأصول ليس "استثمارًا"، بل هو تصفية ممتلكات عامة مقابل سيولة عاجلة، وهو ما يختلف عن الاستثمارات الحقيقية التي تضيف طاقات إنتاجية جديدة وتخلق وظائف وتوسع القاعدة التكنولوجية.
ويحذر خبراء من أن الاعتماد المفرط على بيع الأصول يعرض الاقتصاد لمخاطر فقدان السيطرة على قطاعات استراتيجية، ويجعل أي حديث عن "جذب 9.8 مليار دولار" فاقدًا للمصداقية إذا كان جزء كبير منه مجرد صفقات بيع.
 

معاناة القطاع الخاص
مع أن "القطاع الخاص استحوذ على 65% من الاستثمارات"، فيتجاهل شكوى المستثمرين المحليين من مزاحمة الكيانات العسكرية والجهات السيادية لهم في مختلف القطاعات. تقارير البنك الدولي وصندوق النقد الدولي أشارت بوضوح إلى أن ضعف تنافسية القطاع الخاص في مصر ناتج عن تضييق مساحته أمام هيمنة الشركات التابعة للدولة.

وبالتالي، فإن مشاركة القطاع الخاص المزعومة في الاستثمارات هي في كثير من الأحيان مجرد واجهة شكلية، بينما تظل القرارات الكبرى والقطاعات الحيوية تحت قبضة الدولة.
 

بين الخطاب والواقع
تصريحات كجوك في فرانكفورت تأتي في سياق محاولة الحكومة طمأنة المستثمرين الأجانب بعد سلسلة من تخفيضات التصنيف الائتماني من وكالات مثل موديز وفيتش. لكن هذه التصريحات تصطدم بالواقع اليومي الذي يعيشه المصريون: تضخم تجاوز 35%، وتآكل القوة الشرائية، وارتفاع أسعار الغذاء والدواء، إلى جانب ندرة العملة الأجنبية في السوق.

وفي النهاية فإن تصوير الاقتصاد المصري على أنه "أكثر انفتاحًا وتنافسية" ليس سوى ترديد لشعارات دعائية في المحافل الدولية، بينما الواقع يعكس اقتصادًا يترنح تحت وطأة الديون، ويعاني من عجز مالي وتجاري مزمن، ويلجأ إلى بيع الأصول لتعويض نقص السيولة، وهو ما لا يمكن اعتباره استثمارًا بأي حال من الأحوال.

وبينما تتواصل محاولات الحكومة لإقناع العالم بأن الاقتصاد في حالة صعود، فإن المؤشرات الموضوعية تقول العكس: اقتصاد يزداد تبعية، وقطاع خاص مكبّل، وشعب يدفع ثمن سياسات مالية قصيرة الأجل لا تراعي الاستدامة ولا العدالة الاجتماعية.