كشفت قناة دويتش فيله الألمانية، في تقرير حول التعذيب في سوريا أن نظام الأسد استعان منذ السبعينيات بضباط نازيين هربوا من الملاحقة في أوروبا لتعليم نظرائهم السوريين أساليب نزع الاعتراف والتعذيب بالمعتقلين.
وجاء في التقرير المنشور
صور مروعة انتشرت على الإنترنت بعد تحرير سجن صيدنايا، المبني من خمسة طوابق في عمق الأرض. ويشاهد في هذه الصور أشخاص هزيلون، وآخرون يقفون في زنازين مكتظة تمامًا. وسجناء كثيرون كان لا بد من حملهم إلى خارج السجن.
وكذلك صوَّر المحرِّرون غرفة كان يجلس فيها في شبه ظلام أشخاص يصرخون، يبدو أنَّهم أصيبوا بأضرار نفسية شديدة نتيجة التعذيب. وقد عثر المحرِّرون أيضًا على جثث أشخاص كثيرين قتلوا بسبب التعذيب. وتشاهد في غرفة أخرى أكوام من الأحذية. وبحسب تقارير إعلامية فقد كان آلاف من الأشخاص مسجونين يوم التحرير في هذا المعتقل وحده.
وبحسب تقرير من منظمة حقوق الإنسان “أمنستي انترناشونال” فقد تم إعدام ما يصل إلى 15 ألف شخص من دون محاكمات قضائية داخل هذا السجن في الفترة بين سبتمبر 2011 وديسمبر 2015.
النازي ألويز برونر
وعلى المنصات يشير بعض الكتاب إلى وجود علاقة مباشرة مع النازيين، وخاصة مع النقيب في قوات الحماية الخاصة (SS) النازية ألويز برونر، الذي هرب إلى سوريا في عام 1945. وهو من أهم العاملين مع أدولف أيشمان، المسئول عن اضطهاد وتشريد وترحيل 6 ملايين يهودي.
ولكن في الواقع، لم يكن ألويز برونر العضو الوحيد من قوات الحماية الخاصة أو الجيش النازي (فيرماخت) في سوريا، كما تقول نورا شالاتي من جامعة إرفورت الألمانية. وتضيف أنَّ “الكثرين منهم قد تم توظيفهم مباشرة لدى هيئة الأركان العامة السورية بعقود مدتها عام واحد وكانوا يخدمون كمستشارين في الجيش والاستخبارات العسكرية”.
ويظهر من الملفات أنَّ هيئة الأركان العامة السورية كانت مهتمة بهم بشكل خاص، وذلك لأنَّهم لم تعد لديهم تبعية لدولة، وأصلهم من بلد يفترض أنَّه لا يوجد لديه تاريخ استعماري – وطبعًا لأنَّ لديهم خبرات حربية نشطة، كانت تشمل أيضًا أساليب الإبادة الجماعية. “لقد كانوا يقدِّرونهم بسبب خبراتهم العملية”، كما تقول نورا شالاتي، التي أجرت أبحاثًا بشكل خاص حول العلاقة بين جهاز أمن الدولة (شتازي) في جمهورية ألمانيا الديمقراطية (الشرقية) السابقة والمخابرات السورية.
حُكم في عام 1953 على ألويز برونر غيابيًا في فرنسا بالإعدام، وجاء إلى سوريا في عام 1954 بهوية مزورة. وبحسب المؤرخ الإسرائيلي داني أورباخ في كتابه “الهاربون” حول النازيين الهاربين، فقد عمل ألويز برونر بعد فترة قصيرة في تهريب الأسلحة الغربية إلى الدول العربية. وفي عام 1959، اعتقل رئيس أحد فروع المخابرات السورية آنذاك ألويز برونر للاشتباه في كونه جاسوسًا وهدده بالسجن مدى الحياة.
وبعد ذلك كشف عن هويته الحقيقية ووضع نفسه في خدمة المخابرات السورية. وفي الأعوام التالية كان يقوم بتدريب مستخدميها على تقنيات مكافحة التجسس والاستجواب. وشارك في دوراته التدريبية رؤساء المخابرات السورية سيئي السمعة، مثل الجنرال علي حيدر، الذي عمل 26 عامًا رئيسًا للقوات الخاصة السورية؛ وكذلك علي دوبا، رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية، بالإضافة إلى مصطفى طلاس، وزير دفاع نظام الأسد والمسئول عن سحق انتفاضة الإخوان المسلمين في حماة عام 1982، والتي راح ضحيتها ما يصل إلى 30 ألف شهيد.
“الكرسي الألماني” و"المكبس"
ومن بين أدوات التعذيب المستخدمة حتى وقت قريب لدى نظام الأسد ما يعرف باسم “الكرسي الألماني”، الذي يتم فيه كسر عمود الضحايا الفقري من خلال تمديد الظهر وتقويسه إلى الخلف بشكل مفرط. وكثيرًا ما تم افتراض أنَّ هذا الاختراع يعود إلى ألويز برونر. وهذا ممكن جدًا ولكن لم يتم إثباته، كما يكتب داني أورباخ. ولكن مع ذلك “لقد ساعد برونر في صنع أدوات تعذيب متطورة”. ومن الممكن – بحسب داني أورباخ – أن يكون من بينها “الكرسي الألماني” أيضًا.
كما كان يستخدم طرق تعذيب نفسية قاسية، مثل الحرمان من النوم وسماع صرخات المعذبين الآخرين، إضافة إلى الضغط النفسي المستمر لتهديد المعتقلين بالقتل الجماعي أو إعدامهم بطريقة بشعة، وخلق بيئة من اليأس والهلع المستمر والتي كانت تهدف ليس فقط للحصول على المعلومات، بل أيضاً كسر الروح الإنسانية بالكامل.
ولا يمكن نسيان غرف الملح التي تُوضع فيها الجثث حتى يحين وقت نقلها، فيما يغيب الملح تمامًا عن كميات الطعام القليلة التي يحظى بها المعتقلون، الأرجح لإضعافهم جسديًا، فيما يتم أخذهم إلى تلك الغرف من حين إلى آخر ليُفاجأوا بكميات هائلة من الملح الذي دُفنت فيه الجثث.
في سجن صيدنايا، الذي يُعتبر من أسوأ المعتقلات السورية، تم إعدام ما بين 13 ألفًا و20 ألف معتقل في الفترة من 2011 إلى 2015 فقط. كان السجن يحتوي على "غرفة المكبس"، التي تم تصميمها لإعدام العشرات دفعة واحدة باستخدام ضغط مكاني.
كما تم العثور على مقابر جماعية استخدمها النظام للتخلص من جثث المعتقلين، وأشار الناجون إلى أن الأحماض الكيمياوية كانت تستخدم لتسريع تآكل الجثث وإخفاء الأدلة.
سجن تدمر أيضًا لم يكن أقل وحشية، حيث كانت الشهادات تؤكد أن الأساليب المعتمدة فيه كانت تعيد إلى الأذهان ممارسات معسكرات الاعتقال النازية.
كراهية لا يمكن اختزالها
لقد قدَّم ألويز برونر خدمات قيمة للديكتاتور حافظ الأسد، الذي حكم سوريا منذ عام 1971. وألويز برونر “كان يعرف خير معرفة كيف يحصل على المعلومات ويستخدمها، وكيف يمكن التلاعب بالناس، وما هو المهم في نشاطات أجهزة الاستخبارات”، كما يكتب ديدييه إيبلباوم، كاتب سيرة حياة ألويز برونر (“ألويز برونر – كراهية لا يمكن اختزالها”). ويضيف “أنَّه كان يعرف أكثر من أي ضابط سوري. ولهذا السبب فقد رافق عملية إعادة هيكلة جهاز المخابرات في سوريا”.
وبفضل معرفته تمكن ألويز برونر من البقاء في أعلى دوائر المؤسسة السياسية، كما قال الصحفي الاستقصائي الهادي عويج لمحطة إذاعة فرانس إنتر في عام 2017. “كانت الصفقة: الحماية مقابل المعرفة النازية. قام ألويز برونر بتدريب المخابرات النازية، وتدريب الدائرة الأولى حول حافظ الأسد”، بحسب الهادي عويج، الذي سلط الضوء في عام 2017 على الأعوام الأخيرة من حياة ألويز برونر كسجين لدى نظام الأسد حتى وفاته المفترضة في عام 2002.
أمن الدولة الألماني يساعد الأسد
بيد أنَّ الحكومة السورية لم تحصل على المساعدة فقط من النازيين الهاربين. فقد تلقت خدمات أيضًا من أمن الدولة “شتازي” في جمهورية ألمانيا الديمقراطية السابقة (الشرقية). وهذا يتناسب سياسيًا مع منطق الحرب الباردة، لأنَّ سوريا كانت غير منحازة في الستينيات، ولكنها اقتربت في عهد الحكومة البعثية بشكل متزايد من الكتلة الشرقية.
وتعود أولى هذه الاتصالات إلى طلب سوري في عام 1966، كما تقول نورا شالاتي. وفي دمشق كان المعنيون يهتمون بكل شيء – بتكنولوجيا الأسلحة وكذلك ببناء أجهزة الاستخبارات والمؤسسات السياسية. “ومع ذلك فقد أظهرت وزارة أمن الدولة الألمانية الشرقية تحفظها التام”، كما تقول نورا شالاتي. ولكن من الصعب – بحسب تعبيرها – العثور على إثباتات، لأنَّ استخبارات جمهورية ألمانيا الديمقراطية (الشرقية) تخلصت من الملفات ذات الصلة إثر حلها في عام 1989.
وعلى العموم من الصعب إثبات وجود تأثير مباشر للاشتراكيين الوطنيين (النازيين) ووزارة أمن الدولة (الشتازي) في سوريا، كما تقول نورا شالاتي: “لكن في المجمل تتكون صورة تتناسب جيدًا مع ما نراه حاليًا في سوريا”. وهكذا تظهر مثلًا الملفات المكتشفة الآن في كل مكان مدى اتسام المخابرات السورية بالبيروقراطية المبالغ فيها.
وحول ذلك تقول نورا شالاتي: “نحن نعرف هذه الظاهرة من جمهورية ألمانيا الديمقراطية (الشرقية) وجهاز الشتازي. لا يمكنني ادعاء وجود علاقة سببية مباشرة. ولكن هذه الظاهرة ملفتة للنظر. ومن الممكن أن تكون أيضًا سمة من سمات أجهزة المخابرات بشكل عام – وحول ذلك لا بد من البحث أكثر. وفي الوقت نفسه لقد كانت أجهزة المخابرات السورية أداة قمع وتعذيب بيد النظام واقترفت أسوأ الجرائم المتعلقة بحقوق الإنسان”. وهذا النهج لا يشبه نهج الشتازي بقدر ما يشبه نهج النازيين وجهاز الجستابو، بحسب نورا شالاتي: “في الواقع لقد جمع نظام الأسد واستخباراته بين أسوأ ما في هذين العالمين”.