على مر العقود الماضية، أصبحت الإمارات العربية المتحدة نموذجًا بارزًا في استخدام التكنولوجيا الحديثة لتعزيز سلطتها الاستبدادية والحد من الحريات الأساسية مثل حرية التعبير والتجمع.

من خلال تقنيات المراقبة التطفلية واستخدام وسائل التواصل الاجتماعي للتجسس، اعتمدت السلطات الإماراتية على هذه الأدوات لقمع المدافعين عن حقوق الإنسان وتقليص مساحة الحريات العامة.

وبالمقارنة مع الأساليب التقليدية للاستخبارات، يُعتبر القمع الرقمي وسيلة أقل تكلفة وأكثر فعالية، مما يمكّن الحكومات الاستبدادية من توسيع نفوذها وقمع أي نشاط معارض بشكل متزايد.

استهداف النشطاء
أحد الأهداف البارزة لهذا القمع الرقمي هو الناشط الحقوقي الإماراتي أحمد منصور، الذي تم استهدافه باستخدام برنامج التجسس الشهير “بيغاسوس”، وهو مثال صارخ على كيفية استخدام الإمارات لهذه التقنيات الحديثة لإسكات الأصوات المعارضة. اعتُقل منصور في مارس 2017 وما زال يقضي عقوبة سجن طويلة، في ظروف قاسية تشهد على قسوة هذا النظام الرقمي.

القمع الرقمي في الإمارات لا يقتصر فقط على الاعتقال والسجن، بل يشمل أيضًا العديد من الآثار النفسية والاجتماعية العميقة. أشارت دراسات عدة إلى أن المراقبة الرقمية تجعل المدافعين عن حقوق الإنسان يشعرون بالخوف من الاتصال بأقاربهم، مما يساهم في خلق نوع من العزلة الذاتية. وقد يصل الحال إلى أن ينقطع الناشطون عن محيطهم الاجتماعي، خوفًا من الانتقام أو استهداف أفراد أسرهم.

وبالإضافة إلى ذلك، فإن هذا النوع من القمع يعزز من الشعور بالشك وعدم الأمان، حيث يبقى الناشطون في حالة يقظة دائمة إزاء الأشخاص الذين يتعاملون معهم، إذ يمكن أن تستخدم الحكومة عملاء سريين ضمن دوائرهم الاجتماعية لاختراق أجهزتهم وحساباتهم على وسائل التواصل الاجتماعي.

وعلى الرغم من وجود أدلة عديدة على التأثيرات النفسية لهذا النوع من القمع، إلا أن البحث المتعلق بتلك التأثيرات لا يزال محدودًا. ومع ذلك، من الواضح أن القمع الرقمي يعمق من حالة العزلة النفسية والاجتماعية ويؤدي إلى مشاكل صحية عقلية متزايدة بين الناشطين الحقوقيين.

برامج التجسس والتصيد الاحتيالي
بحسب مركز الخليج لحقوق الإنسان، يعتمد القمع الرقمي على مجموعة من التكتيكات الرقمية مثل برامج التجسس ومحاولات التصيد الاحتيالي. توفر برامج التجسس مثل “بيغاسوس” القدرة على اختراق الأجهزة المستهدفة بالكامل، مما يمكّن السلطات من الوصول إلى الكاميرات والميكروفونات الخاصة بالناشطين دون علمهم، وتوثيق حياتهم الشخصية بكل تفاصيلها.

تُعتبر محاولات التصيد الاحتيالي جزءًا أساسيًا من هذا النظام الرقمي القمعي. تعتمد هذه المحاولات على إرسال روابط خبيثة للناشطين، غالبًا في إطار دعوات لحضور ندوات أو مقابلات، وعند النقر على هذه الروابط، يتمكن القائمون على هذه العمليات من الوصول إلى حسابات وسائل التواصل الاجتماعي أو المعلومات الحساسة الأخرى.

من خلال هذه الأساليب، لا تكتفي الحكومات الاستبدادية بجمع المعلومات، بل تستخدمها أيضًا لإطلاق حملات تشويه واسعة عبر الإنترنت، حيث يتم إرسال تهديدات مباشرة إلى الأهداف أو نشر معلومات كاذبة عنهم لتقويض مصداقيتهم.

إن التأثيرات النفسية لهذا النوع من القمع متعددة الأوجه. يعاني الناشطون من مشاعر مستمرة من القلق والخوف من التجسس، ويشعرون بأنهم محاصرون في “حرب نفسية” دائمة. حالة الشك التي يعيشونها تجاه الأشخاص الذين يتعاملون معهم تعمق من هذا الشعور، وتزيد من العزلة الاجتماعية، مما يؤدي إلى حالات من الإرهاق العقلي والضغط النفسي الشديد.

وقد وصفت إحدى الدراسات الحديثة هذا الاستهداف بأنه يشبه “الحرب العاطفية والنفسية”، حيث يعاني الناشطون من مشاعر عدم اليقين حول مدى المراقبة واستخدام هذه المعلومات ضدهم. ومن المؤكد أن هذه الضغوط النفسية لها تأثيرات خطيرة على الصحة العقلية والرفاهية العامة للناشطين.

القمع العابر للحدود
إلى جانب القمع الرقمي المحلي، تحتل الإمارات مكانة بارزة في ممارسة “القمع العابر للحدود”، حيث لا تكتفي باستهداف النشطاء والمعارضين داخل حدودها، بل تمتد يدها لتطالهم حتى خارج البلاد. وقد وثقت منظمة “هيومن رايتس ووتش” العديد من الحالات التي تعرض فيها ناشطون حقوقيون للتهديد أو الملاحقة في الخارج.

القمع العابر للحدود يشمل العديد من الانتهاكات مثل القتل، الاختطاف، والإخفاء القسري. وتعتبر هذه الممارسات جزءًا من استراتيجية أوسع لإسكات الأصوات المعارضة ومنع الأفراد من البحث عن ملاذ آمن في الخارج.

وقد ذكرت المنظمة أن الحكومات الاستبدادية تستخدم هذه الأساليب لإجبار الناشطين على الصمت حتى وهم بعيدون عن وطنهم، حيث يتم استهداف أفراد أسرهم المتواجدين في البلاد كوسيلة ضغط عليهم.
أمام هذا القمع المتزايد، أكدت “هيومن رايتس ووتش” على ضرورة أن تتخذ الحكومات والمؤسسات الدولية خطوات جادة لمواجهة هذا القمع العابر للحدود والقمع الرقمي على حد سواء. ودعت إلى ضرورة تخصيص موارد لفهم كيفية حصول هذا القمع واتخاذ الإجراءات اللازمة لحماية النشطاء وحقوق الإنسان في كافة الدول.

كما دعت المنظمة إلى تعيين مقرر خاص في الأمم المتحدة مختص بالقمع العابر للحدود، بالإضافة إلى مراجعة سياسات الإنتربول لضمان عدم استغلالها من قبل الحكومات الاستبدادية لإصدار “نشرات حمراء” لملاحقة المعارضين في الخارج.

الخلاصة تم استغلالها لتعزيز القمع وكبت الحريات. بات القمع الرقمي جزءًا لا يتجزأ من استراتيجية السلطة للحفاظ على سيطرتها، مما يشكل تهديدًا متزايدًا للحقوق والحريات في البلاد وفي العالم أجمع.