في ساعة متأخرة من مساء السبت الماضي، فوجئ القائمون على دار المرايا للثقافة والفنون، باقتحام قوة شرطية لمقرهم، أجرت تفتيشًا دقيقًا قبل أن تصادر عددًا من الكتب والمطبوعات، وألقت القبض على أحد العاملين بالدار.

وحسب شهادة أدلى بها المحامي الحقوقي والمرشح الرئاسي السابق، خالد علي، فقد عُقدت ندوة بدار المرايا للثقافة والفنون في الساعة السابعة مساء السبت، حول إحدى اصدارتها وهو كتاب “تلات ستات” بحضور المؤلفين عمر سعيد ومحمد العريان، وعدد من المشاركين وصل إلى نحو 40 مشاركًا. 

يضيف “علي” أنه وبعد انتهاء الندوة ومغادرة جميع الحاضرين، داهمت قوة من المباحث مقر الدار، واحتجزت إبراهيم مصطفى – أحد المساعدين الإداريين، طالب في كلية التجارة جامعة عين شمس-، والذي تم عرضه تاليًا على النيابة العامة التي قررت إخلاء سبيله على ذمة تحقيقات القضية 5142 لسنة 2024 جنح عابدين.

وحسب المحامي الحقوقي، فقد تشكلت القوة التي داهمت الدار من مباحث قسم عابدين ومباحث المصنفات الفنية ومباحث التهرب الضريبي، واستمرت في تفتيش المكان قرابة الخمس ساعات من العاشرة مساء حتى الثالثة فجرًا. وانتهت مباحث المصنفات إلى تحريز نحو 217 كتاب، وجهازي حاسب آلي، ولم تكتف القوة المداهمة بذلك؛ بل حرزّت مباحث التهرب الضريبي ملفات ومستندات مالية خاصة بالدار.

نظمت دار المرايا للثقافة والفنون، السبت الماضي، ندوة لمناقشة كتاب (تلات ستات.. سيرة من ليالي القاهرة)، للكاتبين عمر سعيد ومحمد العريان، وقد صدر الكتاب في يناير الماضي، وشارك في معرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته الـ 55.

يدلي محمد العريان – الكاتب الصحفي ومؤلف الكتاب- بشهادته على الأحداث الأخيرة التي شهدتها دار المرايا،  واصفًا ما حدث بعد الندوة التي نظمت لمناقشة كتابه، يقول في حديثه معنا: “قبل انتهاء الندوة بخمس دقائق، ظهرت قوات الأمن. كنا على وشك الانتهاء، وعند خروجنا، وقفت المباحث حتى انتهينا تمامًا. في البداية، كان عددهم اثنين فقط. لم يكن مدير الدار موجودًا، وكان حاضرًا الطالب الذي اعتقلوه (يقصد هنا الإداري بالدار الذي تم اعتقاله)، إلى جانب بعض الكتب والأغراض التي صادروها”.

يضيف العريان: “أعتقد أن هذا استهداف للدار بناءً على مجمل أعمالها، وكان آخرها ديوان دومة. يبدو أنهم يستهدفون الدار لأن صوتها يختلف عن معظم دور النشر الأخرى؛ فلديهم ثقافة مختلفة لا تعجب النظام، ولا يرغبون في وجودها أو انتشارها؛ لذا، يلفقون القضايا كذريعة للتضييق عليها. كل دور النشر تدرك ذلك، ويبدو أن هذا عقاب على الصوت المختلف الذي تقدمه الدار. نحن نتضامن معها بشدة ونرفض ما حدث”.

يوضح “العريان” أن هناك دور نشر أخرى تُترك بلا مضايقات لأنها لا تتعارض مع توجهات النظام، مشيرًا إلى أن الواقعة لا تعد الأولى؛ إذ اعتقلت قوات الأمن أيمن عبدالمعطي – المدير السابق لدار المرايا-، واحتجز لأكثر من سنتين قيد الحبس الاحتياطي. مضيفًا: “يقومون بتفتيش الأجهزة ومصادرة الكتب والعقود بشكل مستمر. هذا نوع من التعنت وتلفيق الاتهامات الكيدية، عقاباً للدار على صوتها المختلف، الذي لا يعجب للنظام”.

 

تضييقات أمنية مستمرة
تعرضت دار المرايا إلى عدد من التضييقات الأمنية خلال السنوات الماضية. في عام 2021 رفض منح رقم إيداع لكتاب المرايا غير الدوري، والذي كانت تصدره الدار، ويضم عددًا من المقالات الثقافية والسياسية والفنية. وفي نفس العام منعت قوات الأمن دار المرايا من عرض ديوان (كيرلي) لـ الناشط السياسي والشاعر أحمد دومة، إذ منع عرض الديوان في معرض القاهرة للكتاب، وحضرت قوة أمنية رفقة لجنة من المصنفات، قامت بمنع الديوان وأمرت بحسبه من المعرض الدوليّ.

وفي سبتمبر من عام 2022، ألقت قوات الأمن القبض على مدير الدار، الكاتب السينمائي يحيى فكري، بعد أن حررت المصنفات محضرًا تضمن ثلاث مخالفات: اختلاف عناوين بعض الكتب المنشورة عن العقود الموقعة مع كتاب تلك الكتب؛ إصدار مجلة “مرايا” دون ترخيص من الهيئة الوطنية للإعلام؛ ووجود بعض الكتب من غير مطبوعات الدار محملة على أحد أجهزة الكمبيوتر المحمول الخاصة بالدار في صيغة بي دي إف. جاء ذلك بعد مهاجمة قوة من الشرطة والمصنفات لمقر الدار، إذ أمضت نحو سبع ساعات في تفتيشها ومراجعة المستندات والوثائق الخاصة بالمرايا.

لكن التهمة التي بدت ظاهريًا متعلقة بالمصنفات، لم تقنع كثير من المتابعين لنشاط الدار أو مديرها، إذ داهمت الشرطة مقرها بعد نحو 24 ساعة فقط من تنظيم الدار ندوة لمناقشة كتاب الناشط السياسي علاء عبد الفتاح (شبح الربيع)، الذي رصد تاريخ الأحداث منذ يناير 2011، وحتى العام 2021، كما رصد تدوينات وأقوال علاء عبد الفتاح أمام النيابة وفي المحاكم خلال تلك الفترة.
وفي 19 يوليو الجاري، أعلنت الدار عبر صفحتها على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، تأجيل الندوة التي كان من المقرر عقدها لمناقشة ديوان  (كيرلي) للشاعر والسياسي أحمد دومة – وهو نفسه الديوان الذي منع من العرض في عام 2021-، مبررة ذلك بأن وراء التأجيل “أسباب خارجة عن إرادة الجميع”.

 

نوصي للقراءة: أحمد دومة عن ديوانه “كيرلي”.. كتبته في السجن فرارًا من الهزيمة أو الانفجار

 

يقول يحيى فكري – المدير التنفيذي لدار مرايا-، معلقًا بشكل مقتضب في حديثه معنا: “يبدو أن نشاط الدار لم يعجبهم أو أنه غير متوافق مع توجهاتهم حاليًا. نحن نواجه قضيتين؛ الأولى تتعلق بالمصنفات الفنية والأخرى بالتهرب الضريبي. وسنعمل على معالجة هذه القضايا بأفضل ما يمكن”.

وفي نفس السياق، تعلّق دينا قابيل – مديرة النشر في دار المرايا- على المداهمة الأمنية التي تعرضت لها الدار مؤخرًا، وأسفرت عن مصادرة عدد من الكتب واعتقال أحد الطلاب الجامعيين. تقول في حديثها إلى زاوية ثالثة: “جميع محتوياتنا أصلية وملتزمون بإجراءات الإيداع الرسمية لكل الكتب. لا نعلم سبب المداهمة أو نوع الاتهامات التي قد تواجهنا”.

 تكمل: “تواصلنا أمس مع فريد زهران بصفته رئيس اتحاد الناشرين، وكان داعمًا لنا، خاصةً فيما يتعلق بالشاب المعتقل، وبذلنا جهدًا كبيرًا للتواصل مع الجميع لإطلاق سراحه”، نافية أن يكون لديها علم بأسباب مداهمة الدار؛ لكنها تشير إلى أن المداهمة ربما أتت بسبب نشاط المرايا الثقافي ونوعية إصداراتها.

حاولنا في زاوية ثالثة التواصل مع فريد زهران – رئيس اتحاد الناشرين- الذي وعدنا بالرد، لبيان موقف الاتحاد من الواقعة؛ لكننا لم نتلق ردًا حتى لحظة نشر هذا التقرير.

وقد أسست دار المرايا في العام 2016، تُعرّف عن نفسها عبر موقعها الرسمي وتشير إلى أنها منبر ثقافي ديمقراطي جذري متعدد الأنشطة، يقوم بإنتاج مواد ثقافية وأدبية وفنية متنوعة، وتتبنى في كل منتجاتها منهجًا ديمقراطيًا وتقدميًا، ومناهضًا لكل أنماط التمييز في المجتمع. ويختتم القائمون على الدار تعريفهم بها قائلين: “نسعى إلى استخدام أدوات متنوعة من أجل تحقيق أهدافنا، تتضمن: نشر وبيع الكتب؛ وإصدار مجلة ثقافية تعمل كـ منبر للسجال الفكري؛ وإنتاج أفلام وثائقية وروائية؛ وتنظيم ورش للتدريب على المهارات الإبداعية، والثقافة التقدمية؛ وتنظيم معارض، وندوات، ومؤتمرات، ومسابقات؛ وتأسيس موقع إلكتروني”.


ردود أفعال داعمة 
يقول المؤرخ والباحث خالد فهمي عبر صفحته على فيسبوك: “هجمة جديدة على الفكر والرأي والثقافة والفن، النظام بأجهزته هجموا على دار المرايا، وقاموا بتلفيق تهم معتادة مثل: العثور على حاسب آلي محمل بنسخ سوفتوير غير مرخصة، والتلاعب بالفواتير بغرض التهرب الضريبي”. مؤكدًا أن السلطة تستهدف من خلال استخدامها القانون بإسكات أي صوت جاد للفكر أو منبر حر للإبداع.

يضيف واصفًا دار المرايا: “الدار أثبتت نفسها خلال سنوات قليلة، ولم تكتف بنشر الكتب؛ وإنما حوّلت مقرها إلى مركز للفن والإبداع والفكر، إذ بادرت بعقد ندوات لمناقشة الكتب، وأطلقت بوابة إلكترونية تعرض أعمال البودكاست ومقاطع مصورة بشكل مهني وجذاب”.

في حين علق مصطفى السيد – أستاذ العلوم السياسية: “تابعت إصدارات دار المرايا، ودعاني يحيي فكري للكتابة فيها مرارًا، ولكن لم يسعفني الوقت ولا كثرة الالتزامات، وقدرت كثيرًا هذا المشروع الفكري الرفيع الذي ينأى عن الدخول في معارك سياسية، لذلك اندهشت مما جرى، وتذكرت ذلك الذي كان يضع يده علي زناد مسدسه كلما سمع كلمة مثقف، أو ثقافة، أو فكر”. فيما علقت الكاتبة النسوية رباب كمال قائلة: “كل يوم نعلن تضامنًا مع أحد المظلومين وكل ينتظر دوره. كل التضامن مع دار المرايا”.

في الوقت نفسه، أصدر حزب العيش والحرية تحت التأسيس، بيانًا، لدعم موقف الدار، إذ أعلن تضامنه وقال إنه “يرفض بشكل تام كافة أشكال الترهيب والتهديد والقمع التي يتعرض لها أصحاب الرأي في مصر، إذ تأتي تلك المداهمة بعد أيام قليلة من إلقاء القبض على الصحفي خالد ممدوح ورسام الكاريكاتير أشرف عمر”.

عمرو عبدالرحمن – مدير وحدة الحريات المدنية بالمبادرة المصرية للحقوق الشخصية-، أعرب عن أسفه حيال ما تعرضت له دار المرايا، معتبرًا أن ما حدث كان مؤسفًا ولكنه متوقع وغير غريب على نهج السلطة الحالية في التعامل مع دور النشر المستقلة. 

يوضح في حديثه إلى زاوية ثالثة أن السلطة تتبع منهجية تلفيق القضايا أو استغلال الثغرات في بعض القوانين القائمة أو حتى استغلال العراقيل البيروقراطية للتنكيل بدور النشر المستقلة، وهو “ما يتماشى مع رؤيتها بأن كل شيء يجب أن يكون تابعاً للسلطة وتديره كيفما تشاء”.

ويشير “عبدالرحمن” إلى أن دار المرايا وغيرها من دور النشر تعرضت للعديد من المضايقات، مستشهدًا بمنع “عصير الكتب” من المشاركة في معرض الكتاب، مؤكدًا أن الاحتجاج كان موجهًا ضد دور النشر نفسها بغض النظر عن العناوين التي تنشرها.
يضيف أن ما يحدث لدار المرايا يثبت أنها مستقلة في تمويلها ومستقلة في العناوين التي تنشرها، حيث لا يمكن القول إنها منحازة لاتجاه معين ضد الآخر، ولكنها بالطبع تمتلك قناعات تقدمية و منحازة لحقوق الإنسان، داعيًا جميع المهتمين بصناعة المحتوى والنشر في مصر إلى التضامن مع الدار، سواء في نقابة الصحفيين أو اتحاد الناشرين، محذرًا من التهاون مع هذه النوعية من الانتهاكات التي قد تؤدي إلى عواقب غير متوقعة.