بقلم - عزت النمر :

تحولات حادة وعنيفة يشهدها المشرق العربي هذه الايام لا يجب أبداً أن تغيب دلالتها عن أي مراقب يستقرأ الأحداث ويستخرج منها مبشرات أو محذرات تخص مستقبل أفضل نحاول أن نصنعه أو نشارك في صنعه , غزة الصمود والتحدي وقهر الرعب وبناء الأمل وما أحدثته من مفاجأة وصدمة غيرت موازين كثيرة في الحاضر وقلبت موازين أخرى مستقبلية . كذلك أحداث وتفاصيل الإنتخابات  التركية ونتائجها لا تقل أثراً في كونها تؤشر لتحول شديد الحدة تدفع في ذات الاتجاه وتبعث برسائل أقوى وأشد .

جديد الإنتخابات  الرئاسية هذه المرة أنها أجريت بالاقتراع المباشر من قبل الشعب وليس من خلال البرلمان كما كان منذ تأسيس الجمهورية التركية في 1923 . جديد أخر أفرزته الإنتخابات  التركية أنها جرت بين ثلاثة من المرشحين اثنين منهم من الاسلاميين وثالثهما كردي , وهذا الأمر يحوى تطور نوع وتغيير حاد يطال تركيا الكمالية ــ نسبة الى كمال أتاتورك ــ التي ظلت الى وقت قريب علمانية متطرفة في حربها للدين , وهي دلالة شديدة الأثر عن التحولات التى تشهدها المنطقة ويتشكل فيها المستقبل حيث إرادة الشعوب سمته والحرية عموده والإسلام ذروة سنامه .

دلالة أخرى في الإنتخابات  الرئاسية التركية ألا وهي أن نخبة العلمانيين الأتراك لم تجرؤ على الدفع بمرشح يمثلها , وأنها لجأت مع ما يسمى بالدولة العميقة الكارهة للدين الى الإصطفاف خلف مرشح "إسلامي" والدفع بآخر طائفي كردي في محاولة بدت يائسة للنيل من أصوات العدالة والتنمية ومرشحه أردوغان , في دلاله واضحة لانزواء العلمانية في معقلها حاضراً وهروبها من المشهد بل وموتها الزؤام في المستقبل .

ترشيح الدولة العميقة والعلمانيين لــ "أكمل الدين احسان أوغلو" ككاريزما إسلامية في مواجهة أردوغان اعتراف صريح من العلمانيين بأن الشعوب حين تُحترم إرادتها فانها لا تختار سوى الاسلاميين وأنه مضى وولى عهد الكايرزمات القومية والعرقية , كما أنه دلالة كذلك على توظيف جديد للدين من قبل العلمانيين وهو آخر ما في جعبتهم في مواجهة الاسلام السياسي ورمزه الأعلى أردوغان .

ثمة حقيقة أخرى ينضح بها المشهد لا تخلو من العجب وهي أن نجاح أردوغان لم يكن مفاجئاً بل متيقناً من خصومه وأعدائه , ولكن غاية مناهم ومنتهى أملهم ألا يحصد أردوغان ــ العثماني ــ في هذه الإنتخابات أعلى من نصف الاصوات , وألا يفوز من الجولة الأولى في انتخابات وصفها المراقبون أنها استفتاء على شعبية أردوغان .. ولكنه فعل .

من نافلة القول أن نقول أن توحد قضايا أمتنا العربية والإسلامية اليوم أصبح حقيقة مثيرة للإنتباه , وأن استقطاباً حاداً لاح في أفقها منذ وقت قريب جعلت الأمة كلها تتابع أحدثها وتفترق فيها الى فريقين اثنين . الإسلاميون وأنصارهم ودعاة الحرية والديمقراطية والحالمون بطفرة للأوطان اصطفوا تعاطفاً ودعاءاً مع أردوغان وحزبه , الكتلة الأخرى من العلمانيين واليساريين وأصحاب المصالح وأدعياء الغرب وقفوا صفاً واحداً دعماً لأوليائهم في الداخل التركي , ومن ورائهم نفس القوى الإقليمية والدولية التي دعمت اسرائيل من قبل في مواجهة غزة , ووفرت ــ ومازالت ــ غطاءاً للانقلاب في مصر ضد الارادة الشعبية والشرعية الدستورية .

المشهد من الخارج جعل النصر الأردوغاني يكسر حدة التحالف الدولي المناهض للإسلام والديمقراطية في المشرق العربي , وهي الجولة الثانية في هذا الاتجاه بُعيد جولة أولى بنصر زاهي تحقق للإرادة  الشعبية والمقاومة في غزة هاشم .

الحدث التركي جدير فعلاً بالقراءة والدرس خاصة أن النجاحات التي تحققت على يد أردوغان وحزبه لم تكن بسيطة ولا هينة, فهو الرجل الذي حقق هامشاً واسعاً من النجاحات على مدار أربعة انتخابات متتالية استطاع فيها أن يزيد من أصوات ناخبية مرة بعد أخرى , ولا يجب أن ننسى أن ذلك حدث ويحدث في تركيا التي أطاح العسكر فيها بأربع حكومات مدنية خلال  النصف قرن الماضي , وكان فيها من الاعدامات ما فيها , وقل مثل ذلك عن القهر والقتل وأكثر.

دروس كثير تستوقف القارئ في الحدث التركي في تجربة تُعد نموذجاً , وخاصة ونحن في خريف تجربة حكم الدكتور مرسي التي تشبه الى حد بعيد مقدمات أربكان والتي أفضت الى نتائج أردوغان الحالية , ويمكن التوقف عند قطوف من هذه الدروس على سبيل المجاز لمن أراد ان يستفيد بها في واقعنا المباشر ..

• العدالة والتنمية وأردوغان دخلوا هذه الإنتخابات  بعدما فازوا بهامش مريح في آخر ثلاث استحقاقات انتخابية ومع ذلك لم يركن الرجل وحزبه الى ذلك ولم يتهاونوا مع الاعلام او غيره دفاعاً عن شعبيتهم , بل جيشوا كل إمكاناتهم وحاربوا في كل الجبهات خاصة الاعلامي منها.

• من الدروس الهامة هو أن الفوز في الإنتخابات  وتحصيل شرعيتها ليس نهاية المطاف ولا تكفل لصاحبها بأن يفرح بذلك ويأوي إلى الظل, بل عليه أن يملك زمام المبادرة ويفاجئ خصمه بالإستفادة القصوى من شرعيته التي تحققت , واستثمار إستحقاقات المنصب في تمكين عاجل وتفكيك لجبهات الاخرين , أما الورع عن الدفاع عن هيبة المنصب وعدم الاستفادة بشرعية تحققت فهي نزاهة في غير موضعها , وزهد لا يجوز غالباً ما يكلف الخسران المُبين في معركة لا يتورع فيها الخصوم عن شيئ وليس عندهم فيها خطوط حمراء .

• الاستفادة من شرعية الصندوق أو غيرة تقتضي ان تحسن قراءة الواقع وتعرف حقيقة خصومك وأن تقتحم أوكارهم بأسرع مما يتوقعوا , وألا يكون هناك مناطق حرام أو أصنام تُترك , وإلا ففيها تكمُن الأفاعي والفخاخ التي قد تودي بالحاضر والمستقبل معاً , بلدوزر تركيا اقتحم كل الشائك والمحرم في تركيا فلا شموخ القضاء منعه من المحاسبة , ولا كبار الضباط تركهم أحراراً لمواجهته , واستطاع الرجل أن يكتشف القلوب السوداء ويعيد ــ ومازال ــ هيكلة الدولة العميقة في مبادرة واجبة واستئصال لازم .

• ثمة درس بليغ في التجربة الاردوغانية أن الرجل سعى منذ لحظته الاولى الى إحداث تغيير جذري في بنية الدولة التركية ورأسها إدارة وإرادة, ومع ذلك أحسن في التعامل مع الواقع في لحظته الراهنة حيث صرف كل جهده الى تأمين موقعه أولاً وحقق تمكيناُ مناسباً لحزبه كخطوة أولى وواجب الوقت , ولم يأخذه الانشغال بتأسيس مرتكزات للديمقراطية بعيدة المدى , وفي هذا درس مهم أن القواعد والمرتكزات الديمقراطية الاستراتيجية ستظل صروحا من خيال تهوي سريعاً مالم يستطع مؤسسها الحفاظ على موقعه وتثبيت أركانه .

• لا بأس أن نذكر الاستفادات المتتالية لأردوغان وحزبه من تجربة حكومية ناجحة عمرها 12 عاماً وهي تعد أحد أهم أوراقه في المنافسة , لكن من الإنصاف أيضاً أن نقول أن النجاح الاقتصادي وما تحقق فيه هو في حقيقته ثمرة من ثمرات الجهد والاستقرار السياسي نتيجة طبيعية لقدرته على التمكن والبقاء.

• آية الفشل في الحكم والسياسة أن يمنعك من المبادرة والفعل وأن تقيد نفسك من الاستفادة بشرعيتك أو شعبيتك أو استثمار صلاحيات منصبك خوفاً من أن يقول قائل أو يتكلم مُتكلم , أدرك أردوغان ذلك فكان إقدامه واقتحامه للشائك في تأمين موقعه وتنمية شعبيته واستثمار منصبه دون النظر أو الالتفات لما قال أو يقول أو ما سيقول السفهاء .

• الحديث عن التوافق والمصالحة والتخلي عن الحزب والأنصار بزعم رئاسة الشعب كله بدعة لا تحدث في بلاد العالم الديمقراطية لكنها بمباركة ليبرالي بلادنا فخ منصوب وابتزاز رخيص تعود أردوغان على تجاوزه وألقي خطاب النصر من شرفة حزبه في أنقره .

• لا يُنسى أبداً أن حالة النجاح في الحكم والسياسة وفي بناء النهضات عامة تحتاج الى زعامة من نوع خاص, ونجاح النموذج التركي استند في جزء كبير منها الى زعامة أردوغان , الذي لم يقف طموحه عند الحصول على أكثر من نصف أصوات الناخبين ولا توجيه صفعة ديمقراطية لخصومة السياسيين ولا حتى مجرد الوصول الى قصر "جانكايا" الرئاسي في أنقرة , لكنها زعامة تقود تحولات دراماتيكية في الواقع التركي مسخراً آليات الديمقراطية ومستفيداً من صلاحيات المنصب ومتجاوزاً نتوءات الماضي وأغاليطه وقافزاً على كل حواجز الزمن, كل ذلك تم بحرفية زعيم ووفق مفهومه الإسلامي المحافظ , ولا ندري ماذا في جعبة الزعيم غداً؟ , وماذا سيعلن عنه بعد أن يستقر به المُقام في موقع سيد الترك وحاكمهم وكاتب تاريخهم الجديد ؟!.  

لاشك أن الواقع يعلن عن امبراطور عثماني قادم يغزو المستقبل التركي ويسجل إسمه الذي قد يكون الأعلى في الذاكرة التركية , ويكسب مزيداً من النقاط في تنافس مكتوم على لقب الرجل الأقوى في التاريخ التركي , ويبدو أن الغلبة فيه ستكون لأردوغان الحاضر والمستقبل على حساب أتاتورك الماضي والتاريخ .

تلك قراءة في التجربة التركيه أوحت بها الإنتخابات  الرئاسية الأخيرة التي تغري بالدراسة والاعتبار اذا كنا نريد تصحيح البوصلة وتقييم المسار , ومازال في التجربة دروس وعبر كثيرة .. فهل من مُعتبر ؟!.

[email protected]