بعد التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار في غزة، تتجه الأنظار إلى المرحلة الأصعب: مرحلة ما بعد الحرب، حيث يواجه القطاع المدمّر مهمة شاقة لإعادة البناء والتعافي وسط دمار واسع ومعاناة إنسانية غير مسبوقة.
فمن إعادة إعمار البنية التحتية واستعادة حرية التنقل، إلى توثيق الجرائم والانتهاكات لضمان العدالة، تتقاطع الرؤى المحلية والدولية حول ضرورة تدخل شامل ومستدام يعيد الحياة الطبيعية إلى أكثر من مليوني فلسطيني يعيشون في واحدة من أكثر البيئات تضررًا في العالم.
 

توثيق الجرائم والانتهاكات: معركة الذاكرة ضد النسيان
حيث يشدد الخبراء على أن أولى خطوات التعافي تبدأ من توثيق الحقيقة.
ومن جهته يرى الصحفي مأمون فندي أن وجود صحفيين وأكاديميين في الميدان لتوثيق الأحداث بالصوت والصورة يعدّ أمرًا حاسمًا لكشف الوقائع ومنع محاولات طمس الأدلة. ويؤكد الدكتور جهاد الحرازين، أستاذ العلوم السياسية، أن التوثيق المنهجي ليس فقط واجبًا أخلاقيًا، بل هو شرط أساسي لتقديم الأدلة أمام المحاكم الدولية ومساءلة مرتكبي الانتهاكات.

أما المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، فيدعو إلى حماية الصحفيين وتوفير الدعم الفني واللوجستي اللازم لهم لضمان استقلالية عملية التوثيق وفعاليتها، مشددًا على أن العدالة تبدأ من الكاميرا والقلم، قبل قاعات القضاء.
 

حرية العبور وفتح المعابر: شرط الحياة
من دون فتح المعابر بشكل دائم، تبقى غزة سجناً مفتوحًا وفي ذلك يؤكد الباحث في مجموعة الأزمات الدولية عزمي كشاوي أن معبر رفح يجب أن يفتح بصفة دائمة، مع إشراف دولي يضمن الشفافية والاستمرارية، لتسهيل حركة الأفراد والبضائع والمساعدات.

كما أن فتح المعابر، بحسب كشاوي، يعني تجدد النشاط الاقتصادي وتسهيل عبور العمال والمرضى والمواد الإنشائية دون قيود خانقة.
ويضيف توم فليتشر، مساعد الأمين العام للأمم المتحدة، أن استمرار إغلاق المعابر يُفشل جهود الإغاثة ويقوّض أي خطة لإعادة الإعمار، معتبرًا حرية الحركة شرطًا أساسيًا للحياة الطبيعية وليس مجرد تسهيل لوجستي.
 

ميناء بحري مستقل: كسر الحصار واستعادة السيادة
من بين المقترحات الجوهرية التي يتفق عليها الخبراء، مشروع إنشاء ميناء بحري مفتوح في غزة.
يقول أحمد فؤاد الخطيب، زميل المجلس الأطلسي، إن بناء ميناء مستقل يتيح للقطاع استقبال وتصدير البضائع بحرية، مما ينهي الحصار البحري المستمر منذ سنوات طويلة.
ويرى الخطيب أن الميناء لن يكون مجرد منفذ اقتصادي، بل ركيزة للسيادة الفلسطينية ومصدرًا لآلاف فرص العمل، إلى جانب تحفيز الصناعات المحلية وإنعاش حركة التجارة الإقليمية.
 

إعادة تشغيل مطار غزة: بوابة الهواء إلى العالم
إلى جانب البحر، يبقى السماء مغلقًا في وجه سكان غزة منذ تدمير مطارها الدولي.
وفي ذلك تؤكد أفيف صافية، الممثل الفلسطيني السابق في لندن، أن إعادة تشغيل المطار ليست مهمة مستحيلة بل مسألة إرادة ودعم فني دولي. فالمطار، كما يقول، يمكن أن يعيد لسكان غزة حقهم في حرية التنقل، ويفتح المجال أمام السياحة والتبادل التجاري ويعيد دمج القطاع في الاقتصاد الإقليمي.
 

البنية التحتية الحيوية: إعادة بناء الإنسان قبل الحجر
تتجاوز أزمة غزة حدود الركام والإسمنت إلى أزمات الصحة والتعليم والمياه والكهرباء، فتشير الدكتورة حنان بلخي، مديرة منظمة الصحة العالمية في المنطقة، إلى أن إعادة تأهيل المنشآت الصحية والتعليمية وشبكات الخدمات الحيوية تحتاج إلى تمويل يقدر بنحو 7 مليارات دولار.
بينما يشدد وزير الأشغال الفلسطيني عاهد بسيسو على ضرورة أن تكون عملية الإعمار بقيادة فلسطينية كاملة، بعيدًا عن أي تدخلات خارجية قد تعرقل التنمية المستدامة أو تفرغها من مضمونها السيادي.
 

من الأنقاض إلى الأمل
رغم ثقل الدمار، تتلاقى كل الرؤى حول حقيقة واحدة: إعمار غزة ليس مشروعًا هندسيًا فحسب، بل هو معركة سياسية وإنسانية لاستعادة الكرامة والسيادة والعدالة.
فالتوثيق والمساءلة وحرية الحركة والإعمار المحلي تشكل معًا خريطة الطريق نحو غزة جديدة، قادرة على النهوض من تحت الركام إلى حياة كريمة.
وبينما يراهن الخبراء على تكامل الجهود المحلية والدولية، تبقى مسؤولية المجتمع الدولي أن يثبت صدقيته لا بالوعود، بل بضمان مستقبلٍ آمن ومستقل لأهل غزة.