في فضيحة علمية وأكاديمية جديدة تُسلط الضوء على انحدار البحث العلمي في ظل حكم عسكري قمعي، أثارت دورية علمية صادرة عن كلية الإعلام بجامعة القاهرة موجة غضب وسخرية واسعة، بعد نشرها بحثًا "تحليليًا" يمتدح خطابات منسوبة لعبد الفتاح السيسي، رغم أن بعضها لم يُقال أصلًا، وبعضها الآخر مشحون بالتناقضات والأكاذيب المعروفة!
البحث الذي أعده باحثان من جامعة القاهرة، ونُشر في يونيو 2025 في إحدى الدوريات المحكمة، يحمل عنوانًا مريبًا: "تحليل بلاغي لخطابات القائد عبد الفتاح السيسي: رؤية استراتيجية لنهضة وطن".
وقدّم الباحثان توصية في نهاية الدراسة بضرورة التوسع في دراسة خطابات السيسي، باعتبارها "منهجًا في التواصل القيادي"، رغم أن العديد من هذه الخطابات لم تصدر رسميًا أو كانت مرتجلة، بل إن بعضها لم يُعثر له على أي تسجيل أو تفريغ رسمي.
فضيحة البحث الأكاديمي التي مجّدت خطابات وهمية للسيسي نشرت يوم الأربعاء 9 يوليو 2025 في دورية علمية بكلية الإعلام بجامعة القاهرة.
هذا الحدث وقع في مقر جامعة القاهرة، التي تعتبر من أعرق الجامعات المصرية، ما أضفى على الفضيحة بعدًا مؤسسيًا خطيرًا بسبب تأثيرها على سمعة الجامعة ومصداقيتها الأكاديمية.
تضليل أكاديمي تحت غطاء البحث العلمي
أخطر ما في البحث أنه اعتمد على نصوص مجتزأة وغير موثقة، بعضها لا يمت للواقع بصلة، وبعضها الآخر محشو بعبارات ترويجية تتجاوز الموضوعية الأكاديمية، مثل: "السيسي يجسد وجدان الأمة"، و"خطاباته تحمل بصيرة نبوية"، و"بلاغته تُعيد بناء الإنسان المصري".
اللافت أن الباحثين لم يقتصروا على تحليل النصوص – الحقيقية أو المتخيلة – بل قدّما توصيات "علمية" خطيرة، منها إدراج خطابات السيسي كمقررات دراسية في الجامعات والمعاهد المصرية، وتدريب الإعلاميين على اقتباس مضامينها.
وقد أثار ذلك عاصفة من الانتقادات، حيث اعتبره أكاديميون نوعًا من "تسييس البحث العلمي وتحويل الجامعات إلى أبواق دعائية للنظام العسكري".
ردود فعل أكاديمية وإعلامية غاضبة
قال الدكتور حمدي عبد اللطيف، أستاذ الإعلام بجامعة مستقلة، إن ما حدث "يُعد كارثة علمية وأخلاقية"، مؤكدًا أن "الجامعات المصرية تحولت منذ الانقلاب العسكري في 2013 إلى أدوات تطبيل وتجميل لصورة النظام، على حساب المصداقية والموضوعية الأكاديمية".
كما وصفت الصحفية نجلاء بدوي، المتخصصة في شؤون التعليم، في مقال نُشر في موقع "مصر 360"، البحث بأنه "نموذج فجّ للدعاية السياسية المتسترة بثوب البحث العلمي"، مشيرة إلى أن البحث تجاهل عمدًا الخطابات التي استخدم فيها السيسي ألفاظًا مثل "انتو مين"، و"إنتوا مش هتعرفوا"، و"أنا مش سياسي"، وهي خطابات مليئة بالتعالي والغموض والتناقض.
انهيار المنظومة التعليمية في عهد السيسي
تأتي هذه الفضيحة في سياق تدهور شامل للمنظومة التعليمية والبحثية في مصر، ففي تقرير صادر عن "مؤسسة الفكر العربي" لعام 2024، تراجعت مصر إلى المرتبة 129 عالميًا في جودة التعليم العالي، مقارنة بالمرتبة 112 في عام 2010.
كما أظهر تقرير صادر عن منظمة اليونسكو أن الإنفاق على البحث العلمي في مصر انخفض إلى أقل من 0.6% من الناتج المحلي الإجمالي، رغم أن المتوسط العالمي يبلغ 2.3%. في المقابل، يتم تمويل أبحاث تمجّد الحاكم وتُجمّل الدكتاتورية!
سخرية شعبية واستياء واسع
على مواقع التواصل الاجتماعي، اشتعلت السخرية من محتوى البحث، حيث كتب أحد النشطاء: "إذا كان السيسي لا يستطيع أن يُكمل جملة واحدة دون أن يتلعثم، فكيف تصبح خطاباته مادة للبحث العلمي؟"
وكتب آخر: "خطابات السيسي تُحلل في الجامعات وكأننا في كوريا الشمالية، هل ننتظر قريبًا مقررات دراسية بعنوان: بلاغة السيسي ومجازاته؟"
في حين نشر عدد من الصحفيين مقتطفات من البحث على حساباتهم، مع تعليقات ساخرة تكشف ضعف اللغة والتحليل، وافتقار الورقة لأي إطار نقدي حقيقي.
البحث يُخالف معايير النشر العلمي
في حديث خاص لموقع "مدى مصر"، قال الدكتور مصطفى الحسيني، المتخصص في منهجية البحث العلمي، إن الورقة "تفتقد إلى المراجع الحقيقية، ولم تعتمد على قاعدة بيانات موثوقة للخطابات الرئاسية"، مؤكدًا أن "تحليل نصوص وهمية يُعد تزويرًا أكاديميًا يستدعي التحقيق".
وأضاف الحسيني: "المشكلة ليست فقط في هذا البحث، بل في مناخ عام يشجع على التزلف للنظام، ويُعاقب الأصوات الحرة"، مطالبًا بإعادة تقييم إنتاج المراكز البحثية التابعة للدولة.
الجامعات في قبضة الأمن
منذ انقلاب 3 يوليو 2013، تعرضت الجامعات المصرية لعمليات قمع ممنهجة، حيث أُقصي المئات من الأساتذة المستقلين، وتم تعيين رؤساء جامعات موالين للأجهزة الأمنية. كما شهدت السنوات الأخيرة تدخلات مباشرة في المناهج والأنشطة الطلابية لمنع أي نقد للنظام.
وفي هذا السياق، يرى مراقبون أن الفضيحة الأخيرة ما هي إلا انعكاس لـ"تفريغ الجامعات من محتواها العلمي، وتحويلها إلى مصانع لإنتاج الطاعة".
تكشف هذه الحادثة عن الوجه القبيح لعسكرة التعليم والبحث العلمي في مصر، حيث تُستخدم المؤسسات الأكاديمية كأداة لتجميل الصورة المهترئة لنظام فقد شرعيته منذ الانقلاب العسكري، وفشل في جميع الملفات من الاقتصاد إلى التعليم.
وبينما تعاني الجامعات من نقص في الموارد، وهروب العقول، وتدهور جودة المخرجات، تُمنح المنابر الأكاديمية لمَن يُجيدون تمجيد القائد العسكري حتى لو بالكذب والتزوير.