في الوقت الذي تتصاعد فيه المأساة الإنسانية في غزة وتستمر آلة الحرب الإسرائيلية في قتل المدنيين وتدمير البيوت والمستشفيات، تواصل دولة الإمارات تقديم نفسها كداعمٍ "للسلام" و"الاستقرار"، فيما تكشف الوقائع أن هذا السلام المزعوم لم يكن سوى غطاء لتحالف استراتيجي مع تل أبيب على حساب القضية الفلسطينية. فمنذ توقيع "اتفاقيات أبراهام" في سبتمبر 2020، تحولت العلاقة بين أبوظبي وإسرائيل من مجرد تطبيع سياسي إلى شراكة عميقة تشمل الدفاع والطاقة والاستثمار، فيما بقي الفلسطينيون خارج كل المعادلات.
من التطبيع السياسي إلى الشراكة العسكرية
عندما وقّعت الإمارات على الاتفاق، بررت الخطوة بأنها ستُسهم في "تعليق" خطة الضم الإسرائيلية لأجزاء من الضفة الغربية. لكن بعد مرور خمس سنوات، لم يتغير شيء سوى ازدياد رقعة المستوطنات وتكريس الاحتلال بحكم الأمر الواقع.
ورغم صدور بيانات إماراتية متكررة تصف الضم بأنه "خط أحمر"، فإن العلاقات الثنائية لم تتأثر، بل تعمقت بوتيرة لافتة.
فمنذ عام 2016، شارك طيارون من الإمارات وإسرائيل في تدريبات مشتركة، لكن بعد اتفاقيات أبراهام أصبح التعاون العسكري علنيًا ومؤسسيًا. وشمل ذلك:
مناورات بحرية وجوية مشتركة: انخرطت القوات الإماراتية والإسرائيلية مع نظيراتها الأمريكية والبحرينية في تدريبات متكررة بالبحر الأحمر. وفي أبريل 2025، شاركت مقاتلات "ميراج 2000-9" الإماراتية في تدريبات جوية متعددة الجنسيات إلى جانب الطيران الإسرائيلي في اليونان.
صفقات تسليح متطورة: سعت أبوظبي لشراء منظومات دفاعية إسرائيلية متقدمة، أبرزها نظام "باراك" الصاروخي، كما دخلت مجموعة "إيدج" الإماراتية في مفاوضات مع شركة "إلبيت سيستمز" الإسرائيلية لشراء طائرات بدون طيار من طراز "هرمز 900" مع اتفاق لنقل التكنولوجيا وتوطين الإنتاج.
دعم مباشر لآلة الحرب الإسرائيلية: كشف تحقيق استقصائي إسرائيلي في أغسطس 2025 عن إقلاع طائرة شحن عسكرية من قاعدة الظفرة في أبوظبي إلى قاعدة "نفاطيم" الإسرائيلية محملة بذخائر ومعدات اتصالات عسكرية متطورة، مما يجعل الإمارات شريكًا فعليًا في تزويد إسرائيل بوسائل الحرب أثناء عدوانها على غزة.
مصالح اقتصادية تتجاهل الدم الفلسطيني
بينما كانت غزة تُقصف وتُحاصر، كانت الاستثمارات الإماراتية في إسرائيل تتوسع بلا توقف.
في عام 2021، أعلنت أبوظبي عن صندوق استثماري بقيمة 10 مليارات دولار لتمويل مشاريع داخل إسرائيل في مجالات التكنولوجيا والطاقة والزراعة.
وفي صفقة ضخمة عام 2022، اشترى صندوق "مبادلة" الإماراتي 22% من حقل الغاز الإسرائيلي "تمار" بقيمة 1.025 مليار دولار، ليصبح أحد أهم الشركاء في موارد الطاقة الإسرائيلية.
كما أبدت شركتا "أدنوك" و"بريتيش بتروليوم" رغبتهما في الاستحواذ على نصف شركة "نيوميد" الإسرائيلية للغاز، قبل تعليق المفاوضات مؤقتًا بسبب "الظروف الأمنية"، لكن دون إلغاء الصفقة أو التراجع عنها.
هذه الصفقات تكشف أن الدم الفلسطيني لم يكن عائقًا أمام تدفق رؤوس الأموال الإماراتية إلى إسرائيل، وأن المصالح الاقتصادية باتت أولوية تفوق أي التزام قومي أو إنساني.
ازدواجية الخطاب الإماراتي
في العلن، لا تزال الإمارات تردد شعاراتها المألوفة عن "دعم حل الدولتين" و"رفض العنف"، وتدّعي أن لا سلام حقيقي من دون قيام دولة فلسطينية مستقلة.
لكن على الأرض، تمضي في بناء شراكة متكاملة مع الدولة التي تهدم هذا الحلم كل يوم.
هذه الازدواجية ليست مجرد تناقض في اللغة، بل استراتيجية سياسية تهدف إلى تهدئة الرأي العام العربي وتجميل صورة التحالف أمام المجتمع الدولي، بينما تستمر أبوظبي في لعب دور الشريك الأمني والاقتصادي لإسرائيل في المنطقة.
تؤكد تقارير استخباراتية أن التعاون العسكري بين البلدين ازداد خلال العدوان الأخير على غزة، في الوقت الذي كانت فيه الإمارات تصدر بيانات إدانة شكلية لا تتجاوز منصات الإعلام الرسمية. هذا التناقض الفجّ يختزل جوهر السياسة الإماراتية: إدانة أمام الكاميرات، وتطبيع في غرف العمليات.
التطبيع الذي قتل القضية
منذ اتفاقيات أبراهام وحتى اليوم، تحولت الإمارات من دولة تدّعي دعم الفلسطينيين إلى فاعل رئيسي في تثبيت الاحتلال وإضعاف القضية.
لم تجنِ غزة من "المساندة الإماراتية" سوى بيانات باهتة ومساعدات شكلية، بينما جنت إسرائيل مليارات الدولارات وشراكات أمنية مفتوحة.
لقد اختارت أبوظبي أن تكون شريكًا لإسرائيل بدلًا من نصيرٍ لفلسطين، مفضلةً التحالفات الاقتصادية والعسكرية على القيم الأخلاقية والتاريخية التي لطالما تشدّقت بها.
وبهذا، لم يعد التطبيع مجرد سياسة خارجية، بل أصبح عنوانًا لمرحلة جديدة من التواطؤ العربي العلني الذي يشرعن العدوان ويقايض الدم الفلسطيني بمصالح تجارية وأمنية مشتركة.