في خطوة جديدة تكشف عمق الأزمة التي تعصف بمقدرات الدولة المصرية، وتفضح سياسة "البيع بأي ثمن" التي تنتهجها السلطة الحالية، حطّ كريم بدوي، وزير البترول في حكومة الانقلاب، رحاله في مدينة "بيرث" الأسترالية. الزيارة التي سوّق لها الإعلام الرسمي باعتبارها "فتحاً استثمارياً"، يراها مراقبون حلقة جديدة في مسلسل التفريط في الثروات السيادية، حيث تعرض القاهرة ثرواتها المعدنية في "مزاد مفتوح" أمام شركات التعدين الأسترالية، مقدمة حزمة من التنازلات التي أسمتها "حوافز"، في محاولة يائسة لجلب العملة الصعبة، ولو على حساب حقوق الأجيال القادمة في ثروات بلادهم.

 

وتأتي هذه التحركات في وقت يعاني فيه الاقتصاد المصري من تبعات سياسات الاقتراض غير المحسوب، وتوجيهات صندوق النقد الدولي التي تدفع نحو ما يسمى "تخارج الدولة"، وهو الغطاء الذي تستخدمه السلطة لبيع أصول الشعب المصري. وبينما يتحدث الوزير عن "شراكات"، تشير الوقائع إلى عقود إذعان جديدة تمنح المستثمر الأجنبي اليد العليا في استنزاف باطن الأرض المصرية.

 

التفريط المقنن: حوافز أم استباحة؟

 

لم يخجل البيان الرسمي لوزارة البترول من الإعلان صراحة عن تقديم "حوافز جديدة" وصفت بأنها غير مسبوقة لجذب المستثمرين في غرب أستراليا. وخلال لقائه مع ديفيد مايكل، وزير المناجم والبترول في حكومة غرب أستراليا، استعرض بدوي ما أسماه "إصلاحات تشريعية" تم تفصيلها خصيصاً لتهيئة المناخ للشركات الأجنبية.

 

الخطير في الأمر هو نوعية هذه الحوافز التي تشمل "خفض مخاطر الاستثمار" وتسهيل الإجراءات. بلغة الاقتصاد السياسي، يعني خفض المخاطر للمستثمر الأجنبي في دولة نامية مثل مصر أن تتحمل الدولة -أي المواطن- فاتورة المخاطر نيابة عن الشركات، سواء عبر ضمانات سيادية أو إعفاءات ضريبية طويلة الأمد تحرم الخزانة العامة من عوائد حقيقية، أو حتى عبر تعديل قوانين التعدين لتسمح بنسب مشاركة مجحفة لصالح الشريك الأجنبي، مما يحول مصر من مالك للثروة إلى مجرد "جابي ضرائب" زهيدة.

 

إن الحديث عن "تطوير التشريعات" لتعظيم القيمة المضافة ما هو إلا ستار لتمرير قوانين تفرغ سيادة الدولة من مضمونها، وتمنح الشركات الأجنبية حق "المنشأ" والتصرف في الخامات الاستراتيجية، وهو ما يعد امتداداً لسياسات بيع الأصول التي طالت قطاعات حيوية أخرى.

 

الرهان على "الفتات": شركات التعدين المتوسطة

 

المثير للدهشة والاستنكار في آن واحد هو تركيز حكومة الانقلاب في مباحثاتها على جذب "شركات التعدين المتوسطة"، واصفة إياها بـ"العمود الفقري للصناعة". هذا التوجه يكشف عن يأس حكومي في جذب الكيانات العملاقة ذات الملاءة المالية والسمعة الدولية المنضبطة، واللجوء بدلاً من ذلك إلى شركات أقل حجماً قد تكون أكثر "براغماتية" وأقل اكتراثاً بالمعايير البيئية وحقوق العمالة، مقابل تحقيق أرباح سريعة.

 

هذا "التسول الاستثماري" يعكس انعدام الثقة في السوق المصرية التي باتت طاردة للاستثمار الجاد بسبب الفساد وسوء الإدارة، مما يضطر النظام لتقديم تنازلات أكبر لشركات أصغر حجماً. فبدلاً من فرض شروط الدولة القوية التي تملك الثروة، نرى الوزير يهرول إلى أستراليا ليقدم فروض الطاعة الاقتصادية، مستجدياً اهتمام هذه الشركات عبر وعود بفتح أبواب الخزائن المصرية ومؤسسات التمويل الدولية التي تدعم هذا النوع من الاستنزاف.

 

الاقتصاد العسكري وغياب الشفافية

 

لا يمكن فصل هذه التحركات في قطاع التعدين عن السياق العام لسيطرة المؤسسة العسكرية وحلفائها على مفاصل الاقتصاد. فالحديث عن "تهيئة مناخ الاستثمار" يتجاهل عمداً المعوق الحقيقي المتمثل في مزاحمة شركات الجيش للقطاع الخاص، وهيمنتها التي انتقدها حتى صندوق النقد الدولي. وفي ظل غياب أي شفافية حول العقود التي يتم إبرامها، يثور التساؤل: من يراقب هذه الاتفاقيات؟ ومن يضمن ألا تتحول حقوق التنقيب إلى "عطايا" توزع في الغرف المغلقة؟.

 

إن الهرولة نحو أستراليا لبيع حقوق استغلال المناجم ليست إلا وجهاً آخر لسياسة "بيع ما لا تملك لمن لا يستحق". فالدستور المصري، حتى في نسخته الحالية، ينص على أن الثروات المعدنية ملك للشعب، لكن الواقع يؤكد أن حكومة الانقلاب تتعامل مع هذه الثروات كـ"تركة خاصة" تتصرف فيها لسداد ديون راكمتها لتمويل مشاريعها الفنكوشية والقصور الرئاسية.

 

مستقبل مرهون للأجانب

 

ما يجري في بيرث ليس مجرد مباحثات فنية، بل هو "عقد إذعان" جديد. عندما يتحدث الوزير عن الاستفادة من شراكات أستراليا مع البنك الدولي لدعم الاستثمار في مصر، فإنه يمهد الطريق لمزيد من الديون المقنعة، حيث يتم تمويل هذه الشركات الأجنبية لتعمل في أرضنا، وتستخرج خيراتنا، ثم ترحل بالأرباح، تاركة لنا الحفر والنفايات والديون.

 

إن الشعب المصري، الذي يرزح تحت وطأة الغلاء وتآكل العملة، يراقب اليوم كيف تُباع أصوله قطعة تلو الأخرى، من الموانئ والمطارات وصولاً إلى باطن الأرض. إن هذه السياسات لا تهدد فقط الأمن الاقتصادي الحالي، بل تصادر حق الأجيال القادمة في ثروات بلادهم، محولة مصر إلى مجرد منجم كبير يعمل فيه المصريون كأجراء لدى المستثمر الأجنبي، بينما تذهب العوائد لترسيخ أركان حكم لا يرى في مصر سوى "صفقة" يجب إتمامها قبل فوات الأوان.