في خطوةٍ صادمة تستهدف صناعة الوطن وتضع الاقتصاد الوطني في خطر، صوّتت الجمعية العمومية لشركة الحديد والصلب المصرية، التي كانت رمزا للصناعة في العالم العربي، على تمديد فترة التصفية لعام خامس بدءاً من يناير المقبل، وسط هتافات غاضبة من المساهمين: «باطل.. باطل.. باطل.. خمس سنين تصفية باطل».

القرار الأصلي كان اتخاذ التصفية في يناير 2021 لمدة عامين، لكن الإدارة المكلفة لم تحرك ساكناً، فتم تمديدها عاماً بعد عام، ما يكشف إما غياباً فاضحاً للمسؤولية أو مؤامرة متعمدة لتفكيك القطاع.
 

غياب الشفافية واستسلام الدولة
المساهمون الأصغر (15.52%) عبروا عن تذمّرهم من «التسويف والمماطلة» في الكشف عن أصول الشركة وتقييم أراضيها وأسهمها بسعر السوق العادل.
الإدارة المكلفة بالتصفية تكتفي بإصدار مقاطع كلامية ومؤتمرات صحفية، دون تقديم أرقام واضحة أو تقارير مستقلة، ما يشي إلى غياب حقيقي للرقابة والشفافية.

الدولة عبر جهاتها – التي تتولّى الإشراف وغير الإشراف – تسمح بتمديد غير مبرر للتصفية، في حين أن تجميد هذه المؤسسة العريقة يُخضعها لفقدان حريتها التشغيلية، ويُسهّل تسليمها لأطراف غير وطنية أو استخدامها كأداة لخصخصة مموّلة.

وإذا كانت الصناعة – كما كان مقرراً – «قلب الاقتصاد» فإن هذا التمديد الطويل وتحويل نشاط الأراضي إلى سكني (كما ورد) يمثل تنازلاً ضمنياً عن السيادة الصناعية، ويُطرح سؤال أجرأ: هل القرار حكومي أم تابع لمخطط خارجي؟
 

تجاوزات قانونية وأدوار مشبوهة
ليس التأخير وحده ما يثير الغضب، بل وجود مشكلات قانونية صارخة: من يشرف على التصفية هم نفس الأشخاص الذين كانوا مسؤولين عن الرقابة والمحاسبة في الشركة سابقاً — أي الذين يجب أن يكونوا خصوماً وليس مُنفّذين — ما يُشكّل تضارباً واضحاً في الأدوار ويطرح疑ات جدية حول حياد عملية التصفية.

المساهمون طالبوا بإقالة المصفي الحالي وتعيين بديل مستقل، لكن طلبهم بقي دون استجابة، وكأن المؤسسة تُدار بتعمّد من فوق، وليس وفق قواعد حوكمة أو كفاءة أو عدالة.
هذه التجاوزات لا تخدم سوى جهة واحدة: من يريد استنزاف المؤسسة وإضعافها لتمرير صفقة أو تفكيك ما تبقّى من القطاع العام الإنتاجي، تحت غطاء التصفية «الموضوعية».
 

تدمير الصناعة الوطنية وخطر الخصخصة المدعوّم
هذه التصفية ليست عملاً تجارياً محايداً، بل جزء من خطة ممنهَجة يرى مراقبون أنها تهدف إلى إضعاف القطاعات الإنتاجية الوطنية، وفتح الباب أمام الخصخصة غير المدروسة والتدخلات الخارجية. فقد كانت شركة الحديد والصلب المصرية مشروعاً وطنياً تأسّس عام 1954، باعتبارها أول مجمع للحديد والصلب في الشرق الأوسط.

الآن تُحَوَّل إلى «جثة صناعية تُدار بالمماطلة والتجاهل»، في حين يُهدَّد مستقبل آلاف العمال وشبكة التوريد، وتُضعف منظومة كانت قادرة على دعم التنمية الوطنية.

الدولة، في هذا الإطار، ليست طرفاً محايداً بل شريكاً في التفكيك: فهي تسمح بالتنازل عن أراضٍ للمصالح، وتغيّر نشاطها من صناعي إلى سكني، بدل أن تُعيد تشغيلها وتُطوّرها.
النتيجة: مفاقمة البطالة، واغتراب الأطر الإنتاجية، وتكبيل الاقتصاد بواردات المعادن بدلاً من الاستقلالية الصناعية، وكل ذلك تحت شعار: «التصفية».
 

المساهمون والعمال في مواجهة الدولة
المساهمون (خاصة الأقلية) يرفعون الصوت: يطالبون بمعرفة مصير الأصول، وتقييم الشركات والعقارات، وتعيين مصفٍ مستقل، لكنهم يُواجَهُون بصمت رسمي، وتمديدات بلا نهاية، وتحكماً غير معلن.
العمال أيضاً هم الضحية: شركة كانت تشغّل آلاف الموظفين منذ خمسينات القرن الماضي تحولت إلى كيان «تحت التصفية»، وهو ما يعني عدم استقرار، وضعف الإنفاق على الصيانة، وإغلاقاً تدريجياً للمصانع والمعدات، وانكفاء النشاط.
إن تجاهل هذا الجانب لا يعني فقط خسارة مادية بل خسارة وطنية: عمال مصر هم شركاء في الإنتاج، وأي تدمير لمؤسسة بهذا الحجم يعني تدهوراً اجتماعياً وخسارة رأسمال بشري.
 

ختاما فإن ما يحدث في شركة الحديد والصلب المصرية ليس مجرد تقاعس أو سوء إدارة، بل جريمةٌ وطنيةٌ مكتملة الأركان. فعندما تسمح الدولة بتمديد التصفية عاماً بعد عام، وتغضّ الطرف عن تجاوزات قانونية، وتوافق على تحويل نشاط أصول صناعية إلى سكني، فإنها تشارك في قتل الصناعة ومحو إنجازات ممتدة منذ حقبة الدولة التنموية.

المساهمون والعمال ليسوا وحدهم في المواجهة: فالخطر الذي يهدد مؤسسة بهذا الحجم يُمثّل تهديدًا لأركان الاقتصاد الوطني نفسه. ومن واجبنا التذكير بأن الصناعة الوطنية لا تُدار بالترحيل، بل بالنهضة، ويجب أن تُستعاد الشركة وتُدار بكفاءة وتُعيد دورها الريادي، لا أن تُصلب بالمماطلة وتنتهي تحت عنوان «تصفية».
لن نقبل بأن تتحول القصّة إلى ترجمة فعلية لما حذّرت منه من قبل جهات الرقابة: «رائحة جثة» صنعتها التصفية