في فصل جديد من فصول المآسي الإنسانية التي تطال المعتقلين السياسيين في السجون المصرية وذويهم، أسدلت الأقدار الستار على حياة السيدة عفاف محمد عطية، والدة المعتقل السياسي البارز محمد القصاص، نائب رئيس حزب "مصر القوية".
توفيت السيدة عفاف بعد صراع مرير وطويل مع المرض، وبعد أن حرمها النظام من رؤية ابنها لسنوات طويلة، ورفض كل المناشدات الإنسانية للسماح له بزيارتها زيارة أخيرة لوداعها قبل أن تلفظ أنفاسها الأخيرة.

هذه القصة لا تجسد فقط الألم الشخصي لعائلة تمزقت أوصالها بفعل القمع السياسي، بل تكشف أيضاً عن قسوة الإجراءات العقابية التي تتجاوز المعتقل نفسه لتطال أسرته، ضاربة عرض الحائط بأبسط المبادئ الإنسانية والأخلاقية، ومؤكدة على المنهجية التي تتبعها السلطات في التعامل مع خصومها السياسيين، حيث يصبح الحرمان من الحقوق الأساسية، مثل وداع أم تحتضر، أداة إضافية للتنكيل والانتقام.
 

وفاة بعد طول صراع مع المرض
جاء الإعلان عن الوفاة عبر تدوينة موجعة نشرتها زوجة المعتقل السياسي، السيدة إيمان البديني، على صفحتها الشخصية بموقع "فيسبوك". بكلمات مقتضبة تحمل في طياتها سنوات من الألم والحسرة، كتبت البديني: انا لله وانا اليه راجعون، توفيت الى رحمة الحاجة عفاف محمد عطية والدة زوجي محمد القصاص، نسألكم الدعاء.

 

كانت هذه الكلمات بمثابة الفصل الأخير في قصة معاناة الأم التي انتظرت رؤية ابنها لسنوات دون جدوى، والتي رحلت عن الدنيا حاملة في قلبها غصة عدم قدرتها على احتضانه أو رؤيته للمرة الأخيرة.

الخبر الذي انتشر عبر منصات التواصل الاجتماعي أثار موجة واسعة من الحزن والغضب، حيث سلط الضوء مجدداً على الأوضاع اللاإنسانية التي يعيشها آلاف المعتقلين السياسيين في مصر، والآثار المدمرة التي يتركها الاعتقال على الأسر بأكملها.
 

مناشدات مرفوضة لزيارة أخيرة
قبل أيام قليلة من وفاتها، كانت الأسرة قد بذلت محاولات يائسة للحصول على تصريح إنساني عاجل يمكن محمد القصاص من زيارة والدته التي كانت تنازع الموت.
وكشفت زوجته "إيمان البديني" أن وزارة الداخلية، ممثلة في مصلحة السجون، قد أبدت تعنتاً شديداً وصل إلى حد رفض تسلّم خطاب رسمي يطالب بهذه الزيارة الإنسانية.

وفي منشور لها على حسابها بموقع "فيسبوك"، أوضحت البديني تفاصيل المحاولة الفاشلة قائلة: "تقدمت من أسبوعين، أو حاولت لأن مصلحة السجون رفضت استلام طلبي للسماح لمحمد بالخروج لزيارة والدته المريضة واللي منعها مرضها من إنها تشوفه طول فترة حبسه من 2018 لحد النهارده، وحاليًا التعب زاد عليها جدًا وتقريبًا مبقاش عندها أي قدرة على الحركة".

وقد أرفقت السيدة البديني بمنشورها نص الطلب الرسمي الذي حاولت تقديمه لكل من وزير الداخلية ورئيس قطاع الحماية المجتمعية، والذي جاء فيه: "التماس من سيادتكم التكرم بالموافقة على السماح بخروج إنساني (في مأمورية) للنزيل/محمد علي إبراهيم القصاص لزيارة والدته نظرًا لتدهور حالتها الصحية بالغة الخطورة". هذا الرفض لم يكن مجرد إجراء إداري، بل كان قراراً قاسياً حرم الابن من حقه في توديع والدته، وحرم الأم من أمنيتها الأخيرة برؤية ابنها.
 

مرض أقعدها ومنعها من رؤيته
كانت الظروف الصحية للسيدة عفاف محمد عطية هي العائق الأكبر الذي حال دون رؤيتها لابنها منذ لحظة اعتقاله في فبراير (شباط) عام 2018. الطلب الذي تم رفضه شرح بالتفصيل الحالة الصحية المتدهورة للأم، حيث أوضح أنها "حالت دون رؤيتها لابنها منذ حبسه في فبراير (شباط) عام 2018 حتى الآن، لعدم قدرتها على مغادرة الفراش أو الانتقال بالإسعاف لزيارته في مركز الإصلاح والتأهيل".

الوثيقة التي أرفقتها زوجة القصاص كشفت عن حجم المعاناة الجسدية التي كانت تعيشها والدته، حيث شرحت أنها "تعاني من روماتويد مزمن في مرحلة متقدمة، يترتب عليه تآكل بعظام الحوض والكتف والفقرات، وضعف شديد في الحركة بالجهة اليسرى من الجسم.
وتطورت حالتها إلى عجز شبه كامل عن الحركة الطبيعية وعدم القدرة على الجلوس، مما أدى إلى قرح فراش عميقة والتهابات وارتفاع مستمر في درجة الحرارة".

هذه التفاصيل الطبية الدقيقة لا تبرز فقط مدى خطورة حالتها، بل تؤكد أيضاً على استحالة قيامها بالزيارة بنفسها، مما يجعل قرار منع ابنها من زيارتها قراراً يتجرد من أي لمسة إنسانية أو رحمة.
 

سنوات في السجن بتهم فضفاضة
تعود بداية فصول هذه المأساة إلى تاريخ 8 فبراير 2018، حين ألقت السلطات المصرية القبض على محمد القصاص أثناء عودته من حفل زفاف أحد أصدقائه، وذلك حسب ما وثقته "المبادرة المصرية للحقوق الشخصية".
وُجهت للقصاص اتهامات فضفاضة وشائعة الاستخدام ضد المعارضين السياسيين، وهي "الانتماء لجماعة الإخوان المسلمين وترويج أفكار إرهابية".

وفي 29 مايو 2022، وبعد سنوات من الحبس الاحتياطي، أصدرت محكمة جنايات أمن الدولة طوارئ حكماً نهائياً غير قابل للطعن، بالسجن المشدد لمدة 10 سنوات على محمد القصاص، نائب رئيس حزب مصر القوية، وبالسجن المشدد 15 عاماً على رئيس الحزب، المرشح الرئاسي السابق عبد المنعم أبو الفتوح، في القضية رقم 1059 لسنة 2021 أمن دولة طوارئ. وأكدت المبادرة المصرية للحقوق الشخصية أن التحقيق مع القصاص في هذه القضية الأخيرة جاء بعد أن أمضى بالفعل أربع سنوات ونصف في الحبس الاحتياطي، وهي ممارسة تُعرف بـ"التدوير"، حيث يتم التحقيق معه خلال هذه المدة على ذمة أربع قضايا مختلفة.

وفي كل مرة كان يصدر قرار بإخلاء سبيله على ذمة قضية، كان "يظل القرار حبرًا على ورق، ويبدأ التحقيق معه على ذمة قضية جديدة مشابهة لها، بدون أن يُخلى سبيله فعليًا في أي مرة من تلك المرات".