في مؤشر خطير ينذر بانهيار وشيك لما تبقى من الصناعات الغذائية في مصر، أطلقت جمعية رعاية العاملين بالصناعات الغذائية بكفر الشيخ صرخة تحذير مدوية، كاشفة عن ركود غير مسبوق يضرب حركة البيع والشراء، خاصة في قطاع الألبان.

 

هذا التحذير ليس مجرد شكوى فئوية، بل هو "نعي رسمي" للقدرة الشرائية للمواطن المصري التي سحقتها سياسات حكومة الانقلاب الاقتصادية. فبينما تتشدق الحكومة بأرقام وهمية عن النمو، يكشف الواقع في الأسواق عن كارثة حقيقية: مواطن لا يملك ثمن طعامه، ومنتج يصارع الإفلاس، وسوق تغرقه "السموم" البديلة منخفضة التكلفة والجودة.

 

البيان الصادر عن الجمعية، وعلى لسان متحدثها سعد حسن صالح، لم يكن مجرد وصف لحالة السوق، بل وثيقة إدانة لسياسات رفع الدعم وتحرير سعر الصرف التي حولت السلع الأساسية إلى كماليات بعيدة المنال، دافعة المستهلكين إلى الهاوية الصحية والاقتصادية.

 

المواطن بين فكي الكماشة: الغلاء الفاحش أو "الموت البطيء"

 

المأساة التي كشفها التقرير تتجاوز مجرد انخفاض المبيعات؛ إنها تتعلق بتحول جذري وخطير في النمط الاستهلاكي للمصريين فرضته قرارات الحكومة الجائرة. فقد أشار "صالح" بوضوح إلى أن تشبع السوق بمنتجات مصنعة من دهون نباتية غير صحية أصبح الملاذ الوحيد للفقراء.

 

وفي هذا السياق، يعلق الخبير الاقتصادي الدكتور عبد النبي عبد المطلب قائلاً: "ما يحدث هو جريمة مكتملة الأركان. الحكومة رفعت يدها عن دعم مدخلات الإنتاج وتركت الأسعار تنهش في لحم المواطن، مما اضطره للتنازل عن جودة غذائه وسلامته الصحية مقابل السعر. نحن أمام سياسة (إملاء البطون) بأي شيء حتى لو كان ضاراً، لأن البروتين الطبيعي والمنتجات الصحية أصبحت رفاهية لا يقدر عليها سوى قلة من المنتفعين من النظام".

 

ويؤكد الدكتور ممدوح الولي، الخبير الاقتصادي ونقيب الصحفيين الأسبق، هذا الطرح مشيراً إلى أن: "انخفاض القوة الشرائية هو النتيجة الحتمية لتعويم الجنيه وتآكل المدخرات. المواطن أصبح يوجه دخله الهزيل للضروريات القصوى، وتصريحات الجمعية عن تقليل الكميات والاستغناء عن الأصناف هي ترجمة عملية لسياسة الإفقار. النظام خلق طبقة جديدة من (الفقراء الجدد) الذين كانوا مستورين وأصبحوا الآن عاجزين عن شراء كيلو لبن لأطفالهم".

 

منتجون على حافة الإفلاس.. الصناعة الوطنية تلفظ أنفاسها

 

لم تنجُ الصناعة الوطنية من مقصلة السياسات الحكومية الفاشلة. فارتفاع تكاليف الطاقة، والأعلاف، والنقل، والضرائب المتزايدة، جعلت من الاستمرار في الإنتاج "انتحاراً اقتصادياً". سعد صالح أوضح أن التاجر والمصنع أصبحا يعملان فقط لتغطية التكاليف دون ربح، وهو وضع لا يمكن استمراره.

 

يقول المهندس يحيى حسين عبد الهادي، المتحدث الأسبق باسم الحركة المدنية والخبير في شؤون الخصخصة، تعليقاً على المشهد الصناعي: "الحكومة تحارب المنتج الصغير والمتوسط لصالح حيتان الاحتكار وشركات الجيش. عندما يعجز المصنع عن تحميل الزيادة للمستهلك لأن المستهلك (مفلس)، وتتراكم عليه الديون وتكاليف الطاقة التي رفعتها الحكومة، فإن النتيجة الحتمية هي إغلاق المصانع وتسريح العمالة، وهو ما يعمق الأزمة الاقتصادية ويزيد من معدلات البطالة والفقر".

 

من جانبه، يرى الدكتور زهدي الشامي، نائب رئيس حزب التحالف الشعبي الاشتراكي والخبير الاقتصادي، أن: "حديث الجمعية عن تآكل رأس المال وصعوبة الالتزام بالمصاريف الثابتة هو جرس إنذار بانهيار سلاسل الإمداد الغذائي في الأقاليم. الحكومة مشغولة ببيع أصول الدولة وسداد ديون العاصمة الإدارية، بينما تترك قطاع الصناعات الغذائية يغرق، وهو القطاع الذي يمس الأمن الغذائي المباشر للمواطن".

 

حلول ترقيعية في غياب الرؤية.. والشارع يغلي

 

في ظل هذا الانسداد، طرحت الجمعية حلولاً تعتمد على "تقليل الكميات" و"الابتكار في التسويق"، وهي حلول يراها المراقبون محاولات يائسة للتعايش مع المرض بدلاً من علاجه. فالأزمة ليست في التسويق، بل في القدرة الشرائية المعدومة.

 

ويختتم الباحث الاقتصادي إلهامي الميرغني، تحليله للموقف قائلاً: "الدعوة لتقليل الأحجام والمرونة هي اعتراف ضمني بالهزيمة أمام الغلاء. نحن نعود لعصر (البيع بالقطعة والجرعة) لأن الرواتب لا تكفي. الحكومة الحالية لا تملك أي حلول سوى الجباية، وتصريحات المسؤولين عن تحسن الاقتصاد هي انفصال تام عن الواقع الذي يعيشه تجار كفر الشيخ وغيرهم.

 

إذا لم يتم تدارك الأمر بوقف سياسات الجباية ودعم الطاقة للمصانع ورفع الأجور بشكل حقيقي، فإننا مقبلون على مجاعة مقنعة، حيث الطعام موجود في الرفوف، لكن لا أحد يملك ثمنه".

 

إن تحذيرات جمعية كفر الشيخ هي نموذج مصغر لما يحدث في كل محافظات مصر؛ ركود يضرب الأسواق، فقر يضرب البيوت، ونظام يواصل دفن رأسه في الرمال بينما تتآكل أعمدة الاقتصاد الحقيقي يوماً بعد يوم.