في انفصال تام عن الواقع المؤلم الذي يعيشه المواطن المصري يومياً، خرج وزير المالية أحمد كجوك بتصريحات مثيرة للسخرية، زاعمًا أن المؤشرات الاقتصادية تعكس "تحسناً حقيقياً ومستداماً".

 

هذه التصريحات التي تحاول تجميل وجه الانهيار الاقتصادي، لا تعدو كونها محاولة يائسة لتسويق نجاحات وهمية، بينما الأرض تشتعل تحت أقدام المصريين بنيران الغلاء والديون. حديث الوزير عن "استثمارات ضخها مستثمرون" ليس إلا غطاءً لعمليات بيع ممنهجة لمقدرات الوطن، في حين تؤكد كل المؤشرات الملموسة أن ما يسميه النظام "إصلاحاً" هو في الحقيقة عملية إفقار ممنهج وتجريف لما تبقى من الاقتصاد الوطني.

 

أرقام "كجوك" في مواجهة طوفان الفقر والتضخم

 

بينما يتحدث الوزير عن "نتائج فعلية"، يقف المواطن المصري عاجزاً أمام موجات تضخم غير مسبوقة التهمت الأخضر واليابس. إن الحديث عن تحسن المؤشرات الكلية هو تلاعب بالألفاظ لا يسمن ولا يغني من جوع أمام حقيقة أن القوة الشرائية للجنيه المصري قد تبخرت.

 

الأرقام التي يتباهى بها الوزير لا تعكس انخفاضاً في الأسعار ولا تحسناً في مستوى المعيشة، بل تعكس فقط تدفقات نقدية ساخنة أو عوائد بيع أصول، وهي "مسكنات" مؤقتة سرعان ما يزول أثرها ليبقى المرض العضال.

 

لقد وصل التضخم في أسعار الغذاء والدواء إلى مستويات جنونية، مما دفع ملايين الأسر إلى الانزلاق تحت خط الفقر. وبينما يزعم كجوك أن الاستثمارات تأتي من أموال خاصة، يتجاهل عمداً حقيقة أن القطاع الخاص الوطني يئن تحت وطأة الضرائب والبيروقراطية والمنافسة غير العادلة مع شركات الجيش، مما أدى لإغلاق آلاف المصانع وتشريد العمالة. فأي تحسن يتحدث عنه الوزير والمواطن لا يجد ثمن الخبز والعلاج؟

 

بيع الأصول.. "استثمار" أم تصفية لممتلكات الشعب؟

 

النقطة الأخطر في تصريحات كجوك هي حديثه عن "الاستثمارات" التي ضخها مستثمرون. الحقيقة المرة التي يحاول النظام إخفاءها خلف مصطلحات براقة هي أن هذه الأموال ليست استثمارات إنتاجية جديدة تخلق فرص عمل حقيقية وتضيف قيمة مضافة للاقتصاد، بل هي في الغالب حصيلة "صفقات بيع" لأصول الدولة الاستراتيجية والتاريخية.

 

حكومة الانقلاب تحولت إلى "سمسار" يبيع الفنادق التاريخية، والموانئ، والشركات الرابحة، والأراضي المميزة لمستثمرين أجانب وصناديق سيادية خليجية لسد الفجوة التمويلية الناتجة عن فشلها. تسمية بيع "لحم الحي" استثماراً هو تدليس مفضوح؛ فالاستثمار الحقيقي هو بناء مصانع جديدة واستصلاح أراضٍ زراعية، وليس بيع ما بناه الأجداد لسداد ديون أنفقها النظام على قصور رئاسية ومشاريع "فنكوشية" لا طائل منها. ما يحدث هو تفريط في السيادة الاقتصادية وتجريد الدولة من أصولها المدرة للدخل، مما يرهن قرار مصر الاقتصادي والسياسي للخارج لعقود قادمة.

 

دائرة الديون الجهنمية.. رهن مستقبل الأجيال القادمة

 

يتجاهل وزير المالية في معرض حديثه عن "الاستدامة" الكارثة الأكبر التي تهدد وجود الدولة المصرية نفسها، وهي "جبل الديون". لقد أغرق النظام مصر في ديون خارجية وداخلية تجاوزت كل الخطوط الحمراء، حتى أصبحت خدمة الدين (الفوائد والأقساط) تلتهم الجزء الأكبر من الموازنة العامة، تاركة الفتات للصحة والتعليم والخدمات العامة.

 

الحديث عن "تمويلات موجهة للمستقبل" هو كذبة كبرى؛ فمعظم القروض الجديدة تُستخدم لسداد ديون قديمة، في دائرة مفرغة لا تنتهي تسمى "تدوير الديون". هذه السياسة الانتحارية تعني أن الأجيال القادمة ستولد وهي مكبلة بقيود ديون لم تستفد منها بشيء.

 

النظام الحالي يقامر بمستقبل مصر، ويعتمد سياسة "رزق اليوم باليوم" عبر الاقتراض والاستدانة، بينما يروج إعلامياً لنجاحات وهمية. إن الاقتصاد الذي يعتمد في استقراره الظاهري على القروض وبيع الأصول هو اقتصاد هش وآيل للسقوط عند أول هزة عالمية، وتصريحات كجوك لن تنجح في تغطية هذه الحقيقة المفزعة التي يدفع ثمنها الفقراء من قوت يومهم.