بينما يُفترض أن تحمي الدولة فلاحها في أصعب موجة غلاء وتضخم، اختارت حكومة الانقلاب أن تطعن قلب الريف بقرار رفع إيجارات الأراضي الزراعية إلى مستويات لا يتحملها بشر. في بلد يقف فيه الفلاح على حافة الإفلاس بسبب الأسمدة والوقود والكهرباء والنقل والفوائد البنكية، تأتي قرارات وزارة الزراعة ووزارة الأوقاف كرصاصة إضافية في رأس ما تبقى من زراعة وطنية، لصالح خزائن الحكومة وشبكات المستفيدين.
إيجارات خيالية.. وظهر الفلاح للحائط
رفع وزارة الزراعة لإيجار الفدان في بعض المناطق إلى 27 ألف جنيه، وقفزات وزارة الأوقاف بين 15 و45 ألفًا – بل وصول بعض اللجان إلى 54 ألفًا للفدان دفعة واحدة – ليس تعديلًا عاديًا، بل إعلان حرب على صغار المزارعين. هذه الأرقام لا تعني للريف سوى شيء واحد: من لا يملك أرضًا، لن يقدر حتى على استئجارها. نقيب الفلاحين نفسه حذر من أن هذه الزيادات تدفع المزارعين للخروج من العملية الإنتاجية، لأن العائد من الزراعة، في ظل أسعار المحاصيل الحالية، لا يغطي نصف هذه الإيجارات بعد خصم تكاليف الإنتاج. حين تصبح نصف أو ثلث قيمة المحصول ذاهبة للإيجار وحده، فمعنى ذلك أن الحكومة تدفع الفلاح دفعًا لترك الأرض أو التحول إلى عمالة هامشية.
تبريرات رسمية.. وواقع يصرخ بالعكس
وزارة الأوقاف حاولت تلميع القرار بالحديث عن «إعادة تقييم» و«معالجة التراخي وسوء الإدارة» وتقسيم الأراضي إلى فئات: ممتازة، جيدة، متوسطة، وضعيفة، مع مراعاة صغار المستأجرين. لكن ما حدث على الأرض هو العكس: لجان ترفع الإيجار عشرات الآلاف دفعة واحدة، دون فترات انتقالية حقيقية، ودون أي حوار مع الفلاحين الذين استصلحوا هذه الأراضي وخصبوها لعقود. المقارنة التي تبررها الأوقاف بين أراضيها وأراضي الملاك المجاورين غير عادلة أصلًا؛ لأن كثيرًا من الملاك يبالغون في الإيجار ويتعاملون مع الأرض كفرصة مضاربة، فهل من وظيفة الدولة أن تقلّد أسوأ ممارسات السوق بدل أن تضع سقفًا يحمي الفلاح والمنظومة الزراعية؟ حين تصبح وزارة يفترض أنها «شرعية ودعوية» أكبر مالك جَشِع في السوق، فالمشكلة ليست في العقود القديمة بل في عقلية سلطة ترى في الوقف خزينة إضافية لا حقًا اجتماعيًا.
تكاليف إنتاج منفلتة.. وقرار ينسف ما تبقّى
القرار لم يأتِ في فراغ. قطاع الزراعة يعيش أصلًا تحت جبل من الأعباء:
- أسعار الأسمدة قفزت إلى مستويات قياسية، مع نقص مستمر في الجمعيات ووفرة في السوق السوداء.
- السولار والكهرباء الضروريان للري ارتفعت أسعارهما مع كل موجة رفع دعم أو تعديل أسعار طاقة.
- تكلفة النقل تضاعفت بفعل الوقود والجمارك، ما زاد تكلفة وصول المحصول من الأرض إلى السوق.
- أجور العمالة الزراعية ارتفعت مع الغلاء العام، بينما سعر المحصول لا يلحق بهذه القفزات.
- التمويل الزراعي بفائدة بين 21 و22% عمليًا حكم بالإعدام على من يقترض ليزرع.
في وسط هذا الجحيم، بدل أن تخفف الحكومة العبء عن الفلاح، اختارت أن تضيف بندًا جديدًا فوق رأسه: إيجار مضاعف للفدان، يبتلع أي هامش ربح، ويحوّل الزراعة إلى مغامرة خاسرة. هذه ليست سياسة عشوائية؛ هذا تجريف ممنهج لوجود الفلاح الصغير والمتوسط لصالح كبار الملاك والشركات الزراعية المرتبطة بالبنوك والسلطة.
من الأمن الغذائي إلى أمن الجباية
كل خطاب رسمي عن «الأمن الغذائي» يصبح نكتة سوداء أمام هذه الممارسات. الدولة التي ترفع إيجار الأرض في وقت أزمة، وتترك أسعار الأسمدة والوقود والفائدة تنفلت، وتسمح لفئة صغيرة بالتحكم في تسعير المحاصيل ومنافذ التوريد، لا تهتم بأن يبقى في مصر فلاح من الأساس. ما يهمها هو:
- تعظيم تحصيل الإيجارات والأرباح من أراضي الأوقاف والزراعة.
- سد عجز الموازنة من جيوب الريف الذي لا يملك القدرة على الاعتراض المنظم.
- ترك السوق بلا ضابط حقيقي، ثم اتهام «التجار والوسطاء» عند انفجار أسعار الغذاء.
النتيجة الحتمية لهذه السياسة واضحة:
- خروج آلاف الفلاحين من الزراعة أو تقليص المساحات المنزرعة.
- ارتفاع أسعار الغذاء مع انخفاض المعروض المحلي وارتفاع تكلفة إنتاجه.
- تعميق الفقر في الريف وتفريغ القرى من شبابها نحو الهجرة أو البطالة أو أعمال هامشية.
حين تصبح الدولة عدوًا لفلاحيها
ما تفعله حكومة الانقلاب اليوم ليس «إصلاحًا لعقود قديمة» ولا «تطويرًا لإدارة الأوقاف»، بل هجوم واسع على آخر ما تبقّى من طبقة فلاحية تقف بين مصر وبين جوع شامل. حين تتحول الدولة من حامٍ لحق الفلاح في الأرض والزرع إلى أكبر مؤجر متوحش، وحين تُعامَل الأرض الزراعية كسبوبة لا كضمانة حياة، فإن النتيجة لن تكون سوى خراب مزدوج:
خراب اقتصادي يضرب الأمن الغذائي في قلبه.
وخراب اجتماعي يدفع أهل الريف إلى قاع الفقر واليأس.
حكومة ترى في الفلاح مجرد «مستأجر» يجب عصره حتى آخر قرش، لا شريكًا في إنتاج القمح والغذاء، هي حكومة فقدت شرعية الحديث عن أي تنمية أو استقرار. من يطرد المزارع من أرضه اليوم، يفتح بابًا واسعًا غدًا لمجاعة مستترة، ولن يكفي وقتها أي خطاب عن «الجمهورية الجديدة» لإخفاء حقيقة بسيطة: هذه سلطة اختارت الجباية على حساب الزراعة، والريع على حساب الخبز.

