مشروع مركبة «كيوت» ليس خطة حضارية لتقنين النقل، بل دليل فاضح على طبيعة منظومة ترى في الفئات الأفقر مجرد سوق أسيرة، ومصدرًا ثابتًا للجباية والربح لصالح العسكر ورجال الأعمال.

 

في بلدٍ ينهار فيه الدخل الحقيقي، وتتحول لقمة العيش إلى معركة يومية، يفرض نظام الانقلاب على سائق التوك توك مركبة بسعر يقترب من 200 ألف جنيه، ثم يمد له «فتات» دعم لا يتجاوز 11 ألفًا، ويطلب منه أن يصفّق لتحضّر الشارع وتطوير النقل.

 

دعم هزيل وسعر فاحش: مشروع ضد الفقراء لا من أجلهم

 

أن تُسمّى هذه الجريمة «دعمًا» هو استهزاء مباشر بعقل المواطن.

 

نظام يتحدث عن «بديل حضاري» ثم يطرح مركبة بهذه التكلفة على عمال يوميتهم بالكاد تكفي للطعام، يدل على أمرين لا ثالث لهما: إما جهل كامل بواقع الناس، أو ازدراء متعمّد لهم وإصرار على تحويل حاجتهم إلى فرصة استثمارية.

 

المبلغ الذي يُروَّج له كـ«دعم حكومي» لا يساوي شيئًا أمام ثمن المركبة، وأقساطها، وتكاليف البنزين والصيانة وقطع الغيار.

 

من يطرح مشروعًا بهذا الحجم من دون دراسة حقيقية لقدرته على إفقار آلاف الأسر العاملة على التوك توك، لا يبحث عن حلّ لأزمة النقل الشعبي، بل عن زبون جديد يُربَط لسنوات بأقساط وديون وفوائد.

 

عسكر ورجال أعمال.. صفقة مكتملة الأركان

 

حين تظهر وزارة الإنتاج الحربي على خط المشروع، عبر مصنع 999 الحربي، وتتولى تجميع مركبة ضعيفة الإمكانات، بالتوازي مع قنوات توزيع خاصة مثل «غبور أوتو»، فنحن أمام صفقة لا «مبادرة خدمية».

 

الدولة تمنح الغطاء الرسمي والسيادي، الجيش يمنح المصانع والبنية التحتية، رجال الأعمال يحصلون على عقود التوزيع والأرباح، والمواطن الفقير وحده يُدفَع إلى الحافة.

 

هذا التحوّل في دور الإنتاج الحربي من مؤسسة وطنية إلى لاعب تجاري مباشر على حساب الطبقات الأضعف، هو جوهر نموذج حكم السيسي:

 

•  جيش يتاجر في كل شيء من الإبرة للصاروخ.

 

•  رجال أعمال محميّون بالعقد السيادي والاحتكار.

 

•  شعب يُعامَل كسوق إجباري ومنجم ضرائب، لا كشريك له حقّ الرفض والاختيار.

 

كيوت ليست سيارة.. لكنها أغلى من قدرة الفقير

 


الخدعة الأكبر في المشروع هي تسويقه بوصفه «سيارة» بديلة عن التوك توك، بينما هو في الحقيقة مركبة خفيفة بمحرك صغير، لا تقدّم أمانًا أو قدرة أو خدمة أفضل بكثير مما يقدمه التوك توك نفسه.

 

لكن الثمن مضاعف، والعبء المالي أكبر، ومع ذلك يُجبر السائق على التخلي عن وسيلته الحالية لصالح منتج لا يناسب دخله ولا واقعه.

 

لو كان الهدف تقنين النقل وتحسين الشارع، لسألت الحكومة أولًا:

 

•  ما متوسط دخل سائق التوك توك؟

 

•  ما سقف القسط الذي يمكنه تحمّله دون أن يجوع أهله؟

 

•  ما النموذج الأرخص والأنسب الذي يخدم الناس لا المصانع؟

 

لكن ما حدث هو العكس: تم إقصاء التوك توك لا لتوفير بديل عادل، بل لفتح سوق جديدة تُفرَض فيها «كيوت» كخيار وحيد، في إعادة إنتاج لنفس المعادلة: منتج حكومي–خاص فوقي، وسوق أسيرة في القاع.

 

غياب الاختيار.. واحتقار المجتمع

 

أخطر ما في مشروع «كيوت» ليس سعره فقط، بل الفلسفة التي تقف وراءه:

 

•  لا حوار مع السائقين ولا دراسة اجتماعية جادة.

 

•  لا بدائل حقيقية أو مسار تدريجي لتقنين التوك توك.

 

•  فقط قرار فوقي: ممنوع هذا.. مفروض عليكم ذاك.

 

هكذا يتحول الشارع المصري إلى حقل تجارب لصفقات تُطبَخ في الغرف المغلقة، يُصدرها المحافظ والوزير والإنتاج الحربي ورجال الأعمال، بينما يُترَك المواطن لمواجهة البنوك وسوق الغيار وزيت المحرك بنفسه.

 

هذا ليس «تطوير نقل»، بل هندسة اجتماعية بالعافية: كسر أنف الفقير وإخضاعه لمنظومة أقساط، حتى يصبح انشغاله اليومي هو سداد الدين لا التفكير في السياسة أو الاحتجاج.

 

نظام يرى الفقير زبونًا بالقوة لا مواطنًا بحق

 

في النهاية، «كيوت» مرآة صادقة لنظام الانقلاب كله:

 

•  سلطة تتخفى وراء لافتة «الحضارة» وهي تستخدمها لشرعنة الجباية.

 

•  مؤسسات دولة، وعلى رأسها الجيش، تتصرف كلاعب تجاري شره لا كحامٍ للمجتمع.

 

•  فقراء يُبادلون بسطاء مطالبهم بمشروعات ترفع عنهم اللقمة، ثم تُباع لهم كإنجاز.

 

حين تصبح المؤسسة العسكرية طرفًا مباشرًا في صفقة لا تخدم الفقراء، بل تضعهم تحت نير ديون جديدة، فاعلم أن ما يُسمّى «مشروعًا قوميًا» ليس تنمية، بل سبوبة رسمية.

 

ومشروع «كيوت» ليس بديلًا للتوك توك بقدر ما هو رمز لنظام اختار أن يقود سيارة استبداده فوق جثث الطبقة الأضعف، ثم يطلب منهم أن يرفعوا له شعار: «تحيا مصر».