في مشهد جديد يفضح حقيقة النظام العسكري بقيادة السيسي ويعرّي خطاب «الدفاع عن فلسطين» الذي يروّجه خارجياً، كشفت المبادرة المصرية للحقوق الشخصية عن إحالة 64 مواطناً مصرياً للمحاكمة في قضيتين منفصلتين، فقط لأنهم عبّروا سلمياً عن دعمهم للشعب الفلسطيني في غزة أو حاولوا جمع تبرعات إنسانية لصالحه.

 

هكذا يعلن نظام الانقلاب عملياً أن التضامن مع فلسطين جريمة، وأن أي صوت يخرج عن النص الرسمي سيواجه الحبس والإخفاء القسري وتلفيق الاتهامات، بينما يواصل تلميع صورته في الخارج باعتباره «حامي الفلسطينيين من التهجير».

 

حبس احتياطي بلا قانون… والنظام يتعامل معه كحكم نهائي

 

القضية الأولى تضم 14 متهماً بينهم طفل، اعتقلتهم أجهزة السيسي في أكتوبر/تشرين الأول 2023 بالتزامن مع العدوان الإسرائيلي على غزة. هؤلاء لم يحملوا سلاحاً ولم يدعوا للعنف، بل حاولوا تنظيم فعالية سلمية تضامنية بعد تصريح السيسي الشهير الذي قال فيه إن «الملايين مستعدون للاحتشاد رفضاً لتهجير الفلسطينيين».

 

لكن كل من صدّق هذا الكلام وجرّب أن يمارسه واقعاً وجد نفسه خلف القضبان.

 

ووفق المبادرة المصرية، فإن المتهمين الأربعة عشر تجاوزوا بالفعل الحد الأقصى للحبس الاحتياطي، أي عامين كاملين، ما يجعل استمرار سجنهم خارج أي إطار قانوني حتى بمعايير القوانين القمعية التي وضعها النظام نفسه. رغم ذلك، تصرالنيابة والأجهزة الأمنية على استخدام الحبس الاحتياطي كعقوبة جاهزة، بلا محاكمة ولا أحكام، فقط لإسكات الأصوات وإرسال رسالة ترهيب لكل المجتمع.

 

لا توجد «ظروف استثنائية» ولا مبررات قانونية لاستمرار حبسهم، بل هناك إرادة سياسية واضحة: سحق أي تعبير مستقل عن الشارع المصري، خصوصاً إذا ارتبط بفلسطين، لأن النظام يخشى أن تتحول مشاعر الغضب إلى حراك سياسي يفضح فشله الداخلي.

 

المختفي قسرياً يُسجَّل “هارباً”… تزوير وقح لإخفاء الجريمة

 

القضية الثانية أكثر فجاجة وفضيحة. فخلال النصف الأول من 2024، بدأت السلطات في ملاحقة أفراد شاركوا في مجموعة مغلقة على وسائل التواصل هدفها جمع تبرعات إغاثية لأهل غزة. من بينهم الشاب أحمد بهجت عزت (34 عاماً) الذي اختفى في 19 مايو/أيار 2024، وقدمت أسرته بلاغات رسمية متكررة تفيد بتعرضه للإخفاء القسري.

 

بدلاً من أن تحقق النيابة في جريمة الإخفاء، قامت بتسجيل أحمد كـ«متهم هارب» في القضية!

 

هذا ليس خطأ إجرائياً ولا مجرد إهمال، بل تزوير متعمد للواقع، ومحاولة مكشوفة لطمس جريمة الإخفاء القسري وتحويل الضحية إلى متهم. الدولة التي تُخفي مواطنيها قسرياً ثم تقيد أسماءهم على الورق كهاربين، تعلن عملياً أن القانون مجرد ديكور، وأن القضاء جزء من آلة القمع لا أكثر.

 

هذه الواقعة ليست استثناء، بل حلقة جديدة في سياسة ممنهجة للإخفاء القسري أصبحت علامة مميزة لعهد السيسي، حيث يجري اختطاف المعارضين والمشتبه بهم من الشارع أو من بيوتهم، ثم إنكار وجودهم قبل أن يظهروا فجأة متهمين في قضايا ملفقة أمام نيابات أمن الدولة.

 

السيسي يتاجر بغزة خارجياً… ويقمع من يتضامن معها داخلياً

 

بينما يقدّم النظام نفسه أمام العواصم الغربية والعربية باعتباره «الطرف العربي الأشد رفضاً لمخطط تهجير الفلسطينيين»، يطارد في الداخل كل من يرفع علم فلسطين أو يشارك في فعالية رمزية أو مبادرة إنسانية.

 

هذا التناقض الفج يكشف جوهر استراتيجية السيسي: شعارات للاستهلاك الخارجي، وقبضة حديدية في الداخل تحول أي تعاطف مع فلسطين إلى تهديد أمني.

 

منذ انقلاب 2013، جرى تحويل الاحتجاج إلى جريمة، والعمل الأهلي إلى تهمة، والنشاط الخيري إلى «تمويل مشبوه»، وأصبح التعبير السلمي ـ حتى على وسائل التواصل ـ مغامرة قد تنتهي بصاحبها في زنزانة، أو في سرداب إخفاء قسري، أو في قضية أمن دولة جاهزة بعناوين مكررة: «الانضمام لجماعة»، «نشر أخبار كاذبة»، «إساءة استخدام وسائل التواصل».

 

قانون مفصّل على مقاس القمع

 

الواقع الذي ترصده المبادرة المصرية يؤكد أن القانون في عهد السيسي لم يعد أداة تنظيم وعدالة، بل صار سلاحاً بيد السلطة ضد المجتمع.

 

الحبس الاحتياطي تحوّل إلى حكم فعلي بلا إدانة، والنيابة صارت شريكاً في انتهاك الدستور، والقضاء أداة لتقنين الظلم بدل ردعه. كل ذلك لا يستهدف فقط معاقبة الأفراد المتهمين، بل يهدف قبل كل شيء إلى بث الرعب في نفوس ملايين المصريين:
«أي تضامن مع فلسطين، أي رأي مختلف، أي تنظيم مستقل… ثمنه باهظ».

 

دعوات حقوقية… ونظام لا يستجيب إلا للضغط

 

طالبت المبادرة المصرية للحقوق الشخصية السلطات بـالالتزام بمدد الحبس الاحتياطي القانونية، والإفراج الفوري عن المحتجزين بعد تجاوز الحد الأقصى، والكشف عن مصير أحمد بهجت عزت وكل المختفين قسرياً، ووقف الملاحقات الأمنية لكل من يعبّر عن تضامنه مع غزة أو يشارك في مبادرات إنسانية.

 

لكن تجربة السنوات الماضية تؤكد أن نظام الانقلاب في مصر لا يستجيب لنداءات حقوقية ولا لبيانات استنكار، بل يتحرك فقط تحت ضغط حقيقي: ضغط شعبي منظم، أو ضغط دولي لا يمكن التحايل عليه. وحتى يحدث ذلك، سيستمر السيسي في تجريم التضامن مع فلسطين، وقمع المصريين باسم «الأمن القومي»، وتحويل المأساة الفلسطينية إلى ورقة للمساومة السياسية، بينما يدفع الأبرياء في الداخل ثمن كلمة أو منشور أو وقفة سلمية.