تحولت أزمة الأسمدة في مصر من ظاهرة موسمية إلى كارثة مزمنة تعصف بالمزارعين في كل موسم، وسط عجز متعمد من حكومة الانقلاب التي تُدار بسياسات الفوضى والتصدير الأعمى. بين نقص المعروض، وغلاء الأسعار، وتسريب الدعم إلى السوق السوداء، تنهار معادلة الزراعة ومعها أحلام الفلاحين الذين باتوا عاجزين عن تأمين لقمة عيشهم

 

سياسات الإفقار.. الانقلاب يُفرّغ الجمعيات الزراعية من وظيفتها

 

بسبب خلافات مكشوفة بين حكومة الانقلاب وشركات الأسمدة حول نسب التوريد، وغياب الرقابة على منظومة التوزيع، تحولت الجمعيات الزراعية التي كانت نافذة الفلاح إلى مستودعات للفساد والتسريب. المزارع البسيط لا يجد شكارة السماد إلا بعد معاناة، وفي أغلب الأحيان يُجبر على شرائها من السوق السوداء بأسعار خيالية.

 

الدكتور جمال صيام، أستاذ الاقتصاد الزراعي بجامعة القاهرة، أكد أن الأزمة ليست جديدة، لكنها تفاقمت لأن شركات الأسمدة تضرب باتفاقات التوريد عرض الحائط، وتفضّل التصدير لتحقيق أرباح ضخمة، فيما المزارع يدفع الثمن. النسبة المتفق عليها تقضي بتوريد 55% من الإنتاج للسوق المحلي، لكن الحكومة تعجز عن إلزام الشركات بها، فتُترك الأرض عطشى للسماد.

 

حكومة تمنح الغاز وتخسر الزراعة

 

المفارقة الكبرى أن حكومة الانقلاب تمنح شركات الأسمدة غازًا طبيعيًا مدعومًا، وهو يمثل 70% من تكلفة الإنتاج، لكنها لا تفرض بالمقابل التزامًا حقيقيًا بتوريد السماد للفلاح. رفع الدعم عن الغاز مؤخرًا زاد من تكلفة الإنتاج، ما دفع الشركات لرفع الأسعار ومضاعفة التصدير، والنتيجة أن الفلاح يُقصى من المعادلة تمامًا.

 

الدكتور عمر الدجوي، الأمين العام لجمعية تجار وموزعي الأسمدة، كشف عن تسريب منظم لكميات من الأسمدة المدعمة من الجمعيات إلى السوق السوداء. رغم تسلم الجمعيات حصصها كاملة، إلا أن شكاير الدعم تُباع بأضعاف سعرها الحقيقي في السوق، بينما يُحرم منها الفلاح المستحق، في كارثة تمس الأمن الغذائي.

 

فارق الأسعار.. عبء لا يُحتمل على الفلاح

 

يبلغ سعر الشيكارة المدعمة 450 جنيهًا، لكن الفلاح لا يحصل منها سوى واحدة أو اثنتين، ويُجبر على شراء الباقي من السوق الحر بأسعار تصل إلى 1200 جنيه للشيكارة، مما يرفع تكلفة الإنتاج بنسبة تصل إلى 15%. هذه الزيادة لا يتحملها التاجر، بل الفلاح وحده، الذي لا يستطيع رفع سعر المحصول، ويُجبر على البيع تحت الضغط.

 

انخفاض استخدام الأسمدة يعني انخفاض الإنتاج بنسبة تصل إلى 20% للفدان، وفق تقديرات الخبراء. هذا التراجع الحاد في الإنتاج الزراعي يُهدد الأمن الغذائي القومي، ويزيد من فاتورة الاستيراد التي تُثقل كاهل الاقتصاد المنهك أصلاً.

 

سياسات فاشلة واقتراحات مرفوضة

 

صيام اقترح تحويل الدعم إلى نقدي مباشر يُصرف للمزارع وفقًا لمعدل التضخم، حتى لا يُحرم من حقه في السماد. لكن حكومة الانقلاب لا تريد إصلاحًا حقيقيًا، بل تدير الأزمة كما تدير بقية الملفات: بالإنكار والتسويف و"تستيف الورق".

 

الدجوي نفى احتكار التجار للأسمدة، مؤكدًا أن حجم الحصص المخصصة للقطاع الخاص ضعيف، ولا يمكن لأي تاجر تخزين كميات ضخمة بسبب ارتفاع التكلفة. الحقيقة أن الأزمة تُدار من فوق، وأن غياب الشفافية وتغييب الرقابة هو ما يخلق السوق السوداء، لا التجار.

 

الحل الحقيقي: كسر احتكار الشركات

 

الحل الجذري يبدأ من إعادة هيكلة منظومة الدعم بالكامل، وإلزام الشركات بتوريد حصصها المحلية، وتشديد الرقابة على الجمعيات، ووقف نزيف التصدير. لا يمكن السماح بتحويل الدعم إلى سلعة تُباع في السوق السوداء، ولا يمكن ترك مصير الزراعة رهينة مزاج شركات تُفضّل الدولار على القمح.

 

في بلد يعيش 60% من سكانه على الزراعة، تتحول السياسات الحالية إلى أداة تدمير ممنهج. أزمة الأسمدة ليست فنية أو تقنية، بل سياسية بامتياز. في زمن الانقلاب، أصبحت الأرض عطشى للسماد، كما المواطن عطش للعدالة. وإذا لم تتغير المعادلة، فإن الانهيار قادم، ولا عزاء لفلاح ظُلم تحت راية مشروع تنمية زائف.