في واقعة جديدة تكشف عمق الانهيار الاجتماعي والاقتصادي الذي يعيشه الشباب في مصر، أقدم شاب يبلغ من العمر 36 عامًا من محافظة المنيا على إنهاء حياته بالقفز من أعلى جبل المقطم بالقاهرة.
الحادثة، التي وثّقتها مواقع محلية، جاءت بعد معاناة طويلة مع الديون والبطالة وتراكم الالتزامات المعيشية.
لم يكن الشاب حالة استثنائية، بل جزءًا من واقعٍ مريرٍ يعيش فيه ملايين الشباب الذين حاصرتهم الفواتير، وغياب فرص العمل، وصمت حكومة فقدت اتصالها بالناس.
تفاصيل الواقعة
بحسب مواقع محلية، فإن الشاب ترك محافظته وسافر إلى القاهرة بحثًا عن فرصة عمل تُنقذه من ديونٍ متراكمة وأوضاع مالية خانقة.
لكن بعد شهور من المحاولات الفاشلة، وجد نفسه في طريقٍ مسدود، فصعد إلى قمة جبل المقطم وألقى بنفسه.
النيابة العامة فتحت تحقيقًا بالحادث، بينما لم تصدر الحكومة أو وزارة الداخلية أي بيان رسمي حتى الآن، في مشهدٍ يعكس التجاهل الممنهج لكل ما يمسّ معاناة المواطنين البسطاء.
هذه الحادثة ليست الأولى من نوعها، إذ شهدت مصر خلال الأعوام الأخيرة تزايدًا مقلقًا في معدلات الانتحار لأسباب اقتصادية، وسط تراجع واضح في شبكات الحماية الاجتماعية، وارتفاع الأسعار إلى مستويات غير مسبوقة.
ديون بلا نهاية ومعيشة بلا كرامة
تدهورت حياة المصريين خلال السنوات الأخيرة تحت وطأة الغلاء والضرائب والديون، بينما ظلّ الحد الأدنى للأجور ثابتًا لا يكفي احتياجات أسبوعٍ واحد.
الأسعار ترتفع كل شهر، والدعم يتقلّص، والبطالة تنتشر في المدن والقرى.
الشاب المنتحر لم يكن يعاني من مرض نفسي، بل من فقرٍ واقعي صنعته سياسات اقتصادية ترفع من كلفة الحياة دون أن توفّر مصدرًا آمنًا للعيش.
تقرير البنك الدولي الأخير أشار إلى أن نحو 60% من المصريين يعيشون بين خط الفقر وحدّه الأدنى، بينما ارتفعت معدلات البطالة بين الشباب إلى أكثر من 18%.
ورغم ذلك، تستمر الحكومة في الحديث عن “نمو اقتصادي” لا يشعر به أحد، لأنّ ثماره لا تصل إلى المواطن، بل تُستهلك في مشروعات عقارية ضخمة وقروض جديدة تُفاقم الأزمة.
تزايد حالات الانتحار
في ظل الانهيار الاقتصادي غير المسبوق بمصر، وتراجع مستوي المعيشة، وعجز معظم الأسر عن تدبير ضروريات الحياة، بالتزامن مع الحرب الضروس على كل مظاهر التدين والمتدينين، تصاعدت ظاهرة الانتحار بمصر خلال السنوات الماضية، حيث أصدرت المؤسسة العربية لدعم المجتمع المدني وحقوق الإنسان، ، تقريرا تحت عنوان "حالات الانتحار في مصر: الإحباط الاجتماعي وغياب الدولة"، أكدت فيه ان حالات الانتحار في مصر خلال الأشهر الاخيرة شهدت تصاعدا مفزعا.
وتحل مصر في المرتبة الأولى عربيا من ناحية معدلات الانتحار، متفوقة في ذلك على دول تشهد نزاعات مسلحة وحروبا أهلية. وتليها السودان ثم اليمن فالجزائر ، ففي عام 2019، انتحر في مصر وحدها 3022 شخصا، بحسب إحصاءات المنظمة.
اقتصاد يخدم السلطة لا المجتمع
الاقتصاد المصري اليوم لا يعمل لخدمة المواطن، بل لحماية مصالح فئة محدودة مرتبطة بالسلطة.
القرارات تُصاغ لخدمة من يملك، لا من يعمل.
الجيش وشركات الدولة يسيطرون على أغلب القطاعات الحيوية — من المقاولات إلى الأغذية — ما جعل القطاع الخاص عاجزًا عن المنافسة أو خلق فرص عمل حقيقية.
هذه السيطرة المفرطة أغلقت السوق أمام المستثمرين الصغار والمتوسطين، وأدت إلى تجميد النشاط الإنتاجي لصالح اقتصاد استهلاكي يعتمد على القروض والمشروعات الشكلية.
النتيجة الطبيعية لذلك أن الشباب المصري يجد نفسه في مواجهة دولة لا توفر وظيفة، ولا دعمًا، ولا أملًا في العدالة.
وحين تتحول الحياة إلى عبء دائم، يصبح الموت في نظر البعض خلاصًا من نظامٍ لم يترك له أي بديل.
حكومة بلا مسؤولية ومجتمع ينهار بصمت
الحادثة لم تثر أي تحرك رسمي، ولم تُصدر الوزارات المعنية بيانًا واحدًا يشرح أو حتى يعبّر عن التعاطف.
هذا الصمت يعكس تجاهلًا متعمّدًا لأخطر ظاهرة اجتماعية تتنامى في البلاد: انتحار الفقراء بسبب العجز المادي.
بدلًا من مواجهة الأسباب، تكتفي الحكومة بإطلاق تصريحات عن “مشروعات تنموية” لا وجود لها على أرض الواقع.
وفي الوقت نفسه، يُلاحق الإعلام المستقل، ويُمنع الحديث عن الأزمات المعيشية إلا من منظورٍ تجميلي، وكأن الفقر جريمة، والانتحار شأنٌ شخصي.
ختاما فإن حادثة المقطم ليست مأساة فردية بل علامة على الانهيار الأخلاقي والاقتصادي لنظامٍ جعل من البقاء ترفًا ومن الحياة عبئًا.
حين يُدفع شاب في الثلاثينيات إلى الموت بسبب الديون، فالمسؤول الحقيقي ليس الجبل الذي قفز منه، بل الحكومة التي أسقطته اقتصاديًا قبله.
إن ما يحدث اليوم في مصر ليس سوى حصاد طبيعي لسنواتٍ من السياسات التي فصلت الدولة عن مواطنيها، وجعلت الفقر هو القاسم المشترك بين أجيالٍ بأكملها.
ما لم يُعاد بناء الاقتصاد على أساس العدالة الاجتماعية والفرص المتكافئة، فإن المقطم سيظل مفتوحًا… ينتظر ضحية جديدة من شبابٍ فقدوا القدرة على الحلم.