لم يعد كبار السن في القاهرة الكبرى يحتملون وعود الحكومة الفارغة. فبعد عقود من العمل وخدمة الدولة، يجد المتقاعدون أنفسهم اليوم أمام معاشات تتآكل قيمتها شهراً بعد شهر، وقرارات حكومية لا تواكب تضخم الأسعار ولا تحمي كرامتهم.

في الأسابيع الأخيرة، تصاعدت موجة غضب واسعة بين أصحاب المعاشات على مواقع التواصل الاجتماعي، تحوّلت إلى حركة احتجاج افتراضية ضد السياسات التي أفقدت دخولهم معناها، بينما تكتفي الحكومة بالحديث عن "إصلاحات هيكلية" لا يراها أحد على أرض الواقع.
 

تآكل المعاشات وسط الغلاء… والنتيجة فقر معلن
يقول أصحاب المعاشات إن الزيادات التي تعلنها الحكومة ليست سوى أرقام على الورق. فبعد أن تجاوز التضخم الرسمي 30%، لا تعكس الزيادات السنوية إلا جزءاً ضئيلاً من الارتفاع الجنوني في أسعار الغذاء والدواء والمواصلات.

النتيجة واضحة: انخفاض فعلي في القوة الشرائية للمعاشات بنسبة تتجاوز 40% خلال عام واحد.
كبار السن الذين عاشوا حياتهم في خدمة الدولة أصبحوا اليوم يعتمدون على المساعدات العائلية أو الديون لتدبير احتياجاتهم اليومية، في مشهدٍ يُعبّر عن انهيار منظومة العدالة الاجتماعية التي يفترض أن تحميهم.

 

خصومات وتجاهل إداري يزيدان المعاناة
بدلاً من دعم هذه الفئة الهشّة، تستمر الخصومات الشهرية على التأمينات الاجتماعية، ما يقلّل من صافي المعاشات.
الشكوى لا تتوقف عند القيمة فقط، بل تشمل أيضًا الإجراءات البيروقراطية المهينة داخل مكاتب التأمينات، حيث يتلقى المواطنون ردودًا جاهزة: “ارجع لجهة عملك القديمة”.
هذا الإهمال المتعمد يعكس عقيدة حكومية لا ترى المواطن إلا رقماً في خانة الإنفاق، لا إنساناً له حقوق بعد عمرٍ من العمل والعطاء.
 

الوعود الحكومية… غطاء للفشل
تواصل الحكومة الإعلان عن زيادات "استثنائية" ورفع الحد الأدنى للمعاش إلى 7000 جنيه “قبل نهاية العام”، لكن هذه الوعود لا تجد طريقها إلى التنفيذ الفعلي.
حتى مع الزيادات الموعودة، يبقى الحد الأدنى أقل من خط الفقر الفعلي وفق تقديرات المنظمات المحلية والدولية.
الهيئة القومية للتأمينات تتحدث عن “تحديثات في النظام الإلكتروني”، بينما لا يجد المواطن سوى طوابير أمام ماكينات الصرف ورسائل غامضة عن “تعليق الدفعة” أو “تأجيل الصرف”.
إنها سياسة التجميل الإعلامي التي تكررها الحكومة كل عام دون تغيير جذري في واقع الناس.
 

صمت رسمي مقابل غضب متصاعد
في الوقت الذي تتصاعد فيه شكاوى كبار السن، لم يصدر أي موقف واضح من البرلمان أو رئاسة الوزراء، واكتفت الجهات الرسمية ببيانات عامة عن “متابعة الرئيس للملف”.
هذا الصمت يعكس انفصالًا كاملاً بين صانع القرار والشارع، ويفسّر تصاعد الدعوات للاعتصام أمام مكاتب التأمينات في القاهرة الكبرى والجيزة.
فقد فقد المواطنون الثقة في مؤسسات الدولة التي وعدت بتحسين الأوضاع ثم حمّلتهم وحدهم ثمن الانهيار الاقتصادي.
 

أبعاد اجتماعية خطيرة
تدهور المعاشات لا يمس فقط الجوانب المالية، بل يمتد إلى الصحة النفسية والاجتماعية.
كبار السن اليوم غير قادرين على شراء الدواء أو الحصول على علاج لائق، وتتحول الشيخوخة من مرحلة راحة إلى كابوس دائم من العوز والقلق.
المنظمات الاجتماعية تحذر من ارتفاع معدلات الاكتئاب والانتحار بين كبار السن نتيجة الإحساس بالمهانة والعجز، بينما الدولة تواصل تجاهل الأزمة وكأنها “تفصيل صغير” في أزمة أكبر اسمها سوء الإدارة الاقتصادية.
 

غياب العدالة الاجتماعية
هذه الأزمة ليست طارئة، بل نتيجة مباشرة لسياسات مالية فاشلة ركزت على سداد القروض وبناء المشروعات العملاقة، بينما جرى تهميش الفئات التي بنت البلاد.
منذ عام 2014، تُستخدم شعارات "التنمية والإصلاح" لتبرير قرارات قاسية أضعفت الطبقة المتوسطة وسحقت المتقاعدين.
الرسالة التي يقرأها المواطن من هذه السياسات واضحة:الدولة تنفق المليارات على القصور والطرق، لكنها تبخل على من خدموها طوال حياتهم بمعاشٍ يكفيهم دواءهم وطعامهم.

وأخيرا فإن أزمة المعاشات ليست مجرد مشكلة مالية بل فضيحة سياسية وأخلاقية لنظامٍ يرفع شعار “الكرامة” بينما يترك كبار السن في طوابير الذل، كذلك تجاهل الحكومة لهذه الفئة لا يعني ضعف الإدارة فقط، بل سقوط فكرة الدولة الاجتماعية من أساسها.
ففي حين يُهان من بنوا الوطن في شيخوختهم، لا يمكن لأي خطاب رسمي أو “زيادة استثنائية” أن تُخفي الحقيقة: أن الحكومة فشلت في أبسط واجباتها — تأمين حياة كريمة للمواطن بعد عمرٍ من العمل.