تعيش مصر اليوم واحدة من أكثر المراحل عبثًا في تاريخها العقاري، بعد أن تحولت المدن الجديدة إلى مضاربات مالية لا علاقة لها بالسكن أو التنمية الحقيقية. فبحسب تقرير منصة «عقارماب»، سجلت مدينة الشيخ  زايد الجديدة زيادة قياسية في أسعار العقارات بلغت 241% خلال عامين فقط، في وقتٍ تتآكل فيه دخول المواطنين وتنهار فيه القدرة الشرائية للجنيه.

 

ورغم وضوح مؤشرات الخطر، تتجاهل الحكومة كل التحذيرات وتواصل تلميع “المعجزة العقارية” الزائفة التي لا تخدم سوى كبار المطورين وحيتان السوق.

 

فقاعة تتضخم... والحكومة تصفّق

 

حين ترتفع الأسعار بهذه الصورة غير المنطقية — من 30 ألفًا إلى أكثر من 84 ألف جنيه للمتر في الشقق، و130 ألفًا في الفيلات الفاخرة — فلا يمكن الحديث عن “نمو” بل عن فقاعة خطيرة تغذيها المضاربات وغياب الرقابة.

 

الخبير الاقتصادي هاني توفيق وصفها صراحة بأنها “فقاعة عقارية مكتملة الأركان”، محذرًا من ركود وشيك عام 2026 نتيجة المبالغة في التسعير وتباطؤ المبيعات. لكن الحكومة، كالعادة، لا تسمع إلا صوت المديح، وتكتفي بالتفاخر بأن المدن الجديدة تجذب الاستثمارات، دون النظر إلى الكارثة الاجتماعية التي تصنعها.

 

النتيجة أن المواطن العادي أصبح خارج المعادلة تمامًا؛ ملايين الشباب عاجزون عن شراء شقة أو حتى دفع إيجار محترم، بينما تتباهى الحكومة بأبراج الشيخ زايد والعاصمة الإدارية وكأنها منجز وطني، لا مشروع استثماري يخدم قلة ثرية مرتبطة بالسلطة.

 

مدينة للأغنياء... لا للوطن

 

تقرير «عقارماب» يوضح أن الزيادات الأكبر كانت في الكمبوندات المغلقة مثل بيفرلي هيلز وفاي سوديك، وهي مناطق معزولة عن الواقع المعيشي لمعظم المصريين. هناك، تبيع الحكومة الأراضي للمطورين بالدولار، وتمنحهم تسهيلات غير محدودة في التراخيص والبنية التحتية، بينما تُهمل المدن الشعبية التي يعيش فيها ملايين المصريين بلا صرف صحي أو خدمات أساسية.

 

لقد تحولت الدولة من راعٍ للسكن إلى تاجر أراضٍ يسعى لتعظيم العائد المالي. فالمجتمعات العمرانية تقترض من البنوك لتمويل مشروعات فاخرة، تراكمت ديونها حتى أصبحت “شبه معدومة” كما أشار توفيق، لأن الأسعار تجاوزت قدرة الناس على الشراء. وفي المقابل، تغلق الحكومة مشاريع الإسكان الاجتماعي أو تقلّصها بذريعة نقص الموارد.

 

الفقاعة العقارية... أزمة خماسية الأبعاد

 

بحسب التحليل الاقتصادي، تمر مصر بما يمكن تسميته “أزمة عقارية خماسية الأبعاد”:

  • ملايين الشقق الشاغرة ومبانٍ مهجورة تمثل استنزافًا للموارد.
  • ديون ضخمة على هيئة المجتمعات العمرانية للبنوك المصرية.
  • تآكل القدرة الشرائية نتيجة انهيار الجنيه، مما حوّل العقار إلى ملاذ للمضاربة لا للسكن.
  • فجوة اجتماعية حادة بين من يشتري بالملايين ومن لا يجد مأوى لائقًا.
  • ركود مرتقب بسبب ضعف الطلب الحقيقي وتكدّس المعروض الفاخر غير القابل للتسويق.


ورغم وضوح هذه الأبعاد، تصر الحكومة على تسويق المشهد كـ“قصة نجاح”، مستعينة بإعلانات مكثفة ومؤتمرات ترويجية لتغطية الفشل الهيكلي في التخطيط العمراني والاقتصادي.

 

أرقام تفضح الوهم

 

مدينة زايد الجديدة ليست استثناء، بل نموذج صارخ لسياسات الحكومة الخاطئة. فـ“مستقبل سيتي” سجلت أسعارًا بين 65 و70 ألف جنيه للمتر، وحدائق أكتوبر قفزت بنسبة 240% خلال عامين، في حين وصل المتر في التجمع السادس إلى أكثر من 61 ألف جنيه.

 

هذه الأسعار لم تنتج عن تنمية حقيقية، بل عن تدهور الجنيه المصري وارتفاع أسعار مواد البناء بأكثر من 40% بعد التعويم. وهكذا، تدور عجلة الأسعار بلا ضابط ولا رقيب، فيما المواطن الغلبان يُطارد حلم الشقة كما يطارد السراب.

 

النتيجة: سكن للأثرياء... وتشريد للفقراء

 

تفاوت الأسعار كشف عن سوق منقسمة طبقيًا:

 

  • في العاصمة الإدارية وزايد، فائض هائل من الوحدات الفاخرة بلا مشترين.
  • في المناطق الشعبية كعين شمس والمعادي القديمة، ضغط شرائي خانق بسبب قلة المعروض وانخفاض الدخل.
  • في الساحل الشمالي، وحدات تُباع بخمسين مليون جنيه لمجموعة محدودة من رجال المال، بينما الملايين من المصريين يعيشون في العشوائيات.

 

هذه الفجوة السكنية ليست صدفة، بل نتيجة مباشرة لسياسات حكومةٍ جعلت من “العقار” وسيلة لجمع الأموال وسد العجز، لا أداة للتنمية أو العدالة الاجتماعية.

 

خاتمة: حكومة تبيع الأحلام وتشتري الأزمات

 

بينما يتحدث المسؤولون عن “الجمهورية الجديدة” و“التنمية العمرانية المستدامة”، تتسع الهوة بين الغني والفقير، وتتعمق الفقاعة العقارية التي تهدد بانفجار اقتصادي وشيك.

 

لقد حولت الحكومة السوق العقاري إلى كازينو مفتوح للمضاربة، تُباع فيه أراضي الدولة بأسعار خيالية، وتُشترى به ولاءات الشركات والمستثمرين، فيما تظل ملايين الأسر بلا سكن كريم.

 

إن الطفرة العقارية التي تتغنى بها الحكومة ليست إنجازًا، بل مرآة لفشلها في إدارة الاقتصاد، حيث أصبح السكن رفاهية، والمواطن مجرد رقم خارج الحسابات. وفي النهاية، حين تنفجر الفقاعة، لن يدفع الثمن المطورون أو الوزراء، بل المواطن البسيط الذي صدّق أكذوبة “الحلم العقاري” التي نسجتها حكومة بلا رؤية ولا ضمير.