في خطوة جديدة تكشف عن طبيعة النظام الحاكم في مصر، أعلن مجلس الشيوخ، السبت، اختيار القاضي عصام الدين فريد، الرئيس السابق لمحكمة جنايات أمن الدولة العليا، رئيسًا للمجلس بالتزكية، في مشهد يعيد إلى الأذهان ممارسات ما قبل ثورة يناير، حين كانت المناصب تُوزع وفق الولاء لا الكفاءة، وتُدار الانتخابات بنتائج محسومة سلفًا.
لم يتقدم أي نائب لمنافسته، ليحسم فريد المنصب دون تصويت حقيقي، في نسخة جديدة من “المسرحيات السياسية” التي تُدار داخل مؤسسات الدولة منذ انقلاب يوليو 2013.
رجل الأحكام المسيسة في موقع التشريع
تعيين فريد ليس حدثًا إداريًا عابرًا، بل رسالة سياسية واضحة من عبد الفتاح السيسي تؤكد أن المكافأة الكبرى في مصر تُمنح لمن خدم السلطة بأحكام الإعدام والسجن ضد معارضيها.
ففريد هو صاحب سجل حافل بالأحكام المغلظة ضد قيادات وأعضاء جماعة الإخوان المسلمين، منذ ما بعد الإطاحة بالرئيس المنتخب الشهيد محمد مرسي، في قضايا وصفتها المنظمات الحقوقية الدولية بأنها “انتقام سياسي مقنّع برداء قضائي”.
ومن بين تلك القضايا، أحكام جماعية بالإعدام والمؤبد في محاكمات افتقرت لأبسط معايير العدالة والشفافية، واعتُبرت نموذجًا صارخًا للقضاء المسيس الذي يخدم توجهات السلطة لا القانون.
من قاعات القضاء إلى دهاليز السياسة
تدرّج فريد في السلك القضائي حتى وصل إلى رئاسة محكمة جنايات أمن الدولة العليا بالقاهرة، المعروفة بتصديها للقضايا السياسية والأمنية الحساسة. وبعد تقاعده، أُعيد إدراجه ضمن “القائمة الوطنية من أجل مصر” التابعة لحزب مستقبل وطن، الذراع السياسية للنظام، ليحصل على مقعد الشيوخ ممثلًا لمحافظة المنيا، تمهيدًا لتعيينه رئيسًا للمجلس في إطار سياسة "تدوير الوجوه" التي يتبعها السيسي منذ سنوات لتثبيت أركان حكمه.
هذا المشهد يعيد إلى الأذهان سابقة تعيين المستشار عبد الوهاب عبد الرازق، الرئيس الأسبق للمحكمة الدستورية العليا، رئيسًا للمجلس عام 2020، مكافأة له على أدواره السياسية في تمرير اتفاقية تيران وصنافير رغم أحكام بطلانها، في تأكيد متجدد على أن السلطة لا تنسى من خدم مصالحها على حساب الدستور والكرامة الوطنية.
مجلس بلا صلاحيات.. لكن بامتيازات فارهة
ورغم الضجة الرسمية حول تشكيل مجلس الشيوخ، فإن الواقع يؤكد أنه مجلس بلا دور حقيقي، أنشئ فقط لإرضاء الدوائر الموالية للنظام ومنحها مزيدًا من الامتيازات. فطبقًا للدستور المعدل عام 2019، لا يملك المجلس أي سلطات تشريعية أو رقابية، ودوره يقتصر على “إبداء الرأي غير الملزم” في القوانين التي تُحال إليه.
وعلى مدى خمس سنوات، لم يصدر المجلس أي تشريعات مؤثرة أو توصيات فاعلة، بل تحوّل إلى منصة لتلميع القرارات الحكومية وتجميل صورة النظام في الداخل والخارج.
ومع ذلك، يتمتع أعضاؤه بامتيازات مالية ضخمة، إذ يتقاضى كل عضو مكافأة شهرية تبلغ 42 ألف جنيه معفاة من الضرائب، إضافة إلى امتيازات طبية وسفرية فاخرة، في وقت يعاني فيه ملايين المصريين من الفقر وارتفاع الأسعار وانهيار الخدمات العامة.
العسكر والقضاة.. شركاء في ترسيخ الحكم
لم يقتصر الأمر على رئاسة المجلس، فحتى مناصب الوكالة ذهبت بدورها إلى رجال السلطة القديمة؛ إذ فاز اللواء أحمد العوضي، القيادي بحزب “حماة الوطن” ورئيس لجنة الدفاع والأمن القومي السابق، بمنصب الوكيل الأول بالتزكية أيضًا، بينما حصل المستشار فارس سعد حنضل على منصب الوكيل الثاني، وهو أحد أعضاء الهيئة الوطنية للانتخابات التي أشرفت على استفتاء 2019، الذي مدّد حكم السيسي حتى عام 2030.
بهذه التعيينات، يؤكد النظام المصري مرة أخرى أن مؤسساته لا تقوم على التوازن أو الفصل بين السلطات، بل على الدمج التام بين السلطة التنفيذية والأمنية والقضائية، بحيث تعمل جميعها في اتجاه واحد: حماية رأس النظام وتلميع صورته.
إعادة تدوير الرموز القمعية
تعيين عصام فريد على رأس مجلس بلا صلاحيات يمثل استمرارًا لنهج السيسي في إعادة تدوير وجوه القمع داخل مؤسسات الدولة.
فبعد أن كان القاضي أداة في يد النظام لقمع المعارضين، أصبح اليوم رمزًا سياسيًا لتكريس حكم الفرد الواحد.
وهكذا يتحول مجلس الشيوخ إلى ديكور ديمقراطي في دولة تدار بالأوامر، حيث تتبدل المناصب ولا تتبدل السياسات، ويبقى المواطن المصري الخاسر الأكبر بين مسرحية الشرعية وواقع الاستبداد المتجدد.