لم يعد البحر المتوسط مجرّد ممر للهاربين من الفقر واليأس، بل تحوّل إلى مقبرة جماعية لأحلام المصريين الذين دفعتهم سياسات القهر الاقتصادي وانسداد الأفق في عهد عبد الفتاح السيسي إلى ركوب قوارب الموت.
آخر فصول هذه المأساة تجسّد في حادث غرق مأساوي جديد قبالة سواحل جزيرة لامبيدوزا الإيطالية، حيث أعلنت منصة “هاتف الإنذار”، الجمعة، أن نحو عشرين مهاجراً لقوا حتفهم بعد غرق قارب يقل 35 شخصاً في منطقة البحث والإنقاذ التابعة لجزيرة مالطا.
المنصة أوضحت أنها أبلغت السلطات المالطية بوجود القارب في حالة استغاثة منذ مساء الخميس، لكن “لم تكن هناك أي استجابة من السلطات، وغرق القارب، ونخشى وفاة العشرين شخصاً، بعد أن تُركوا عمداً ليموتوا”.
ورغم أن جنسيات الضحايا لم تتضح بعد، تشير شهادات أولية إلى أن من بينهم مهاجرين مصريين كانوا قد انطلقوا من سواحل ليبيا، في رحلة يائسة نحو أوروبا.
صمت رسمي وتواطؤ غير معلن
كالعادة، لم تصدر السلطات المصرية أي بيان رسمي حول الحادث، في استمرار لنهج التجاهل الذي تتبعه القاهرة إزاء مأساة المهاجرين.
ويرى مراقبون أن هذا الصمت يعكس فشلاً بنيوياً في معالجة جذور الأزمة، فبدلاً من خلق فرص عمل حقيقية أو تحسين ظروف المعيشة في القرى المهمشة، تكتفي الحكومة بإطلاق مبادرات شكلية وشعارات مثل “حياة كريمة” التي لم تغيّر واقع البطالة ولا الفقر.
ويؤكد خبراء الهجرة أن مصر، رغم توقيعها اتفاقيات تعاون مع الاتحاد الأوروبي للحد من الهجرة غير النظامية، تغض الطرف عن الأسباب الحقيقية التي تدفع آلاف الشباب إلى المخاطرة بحياتهم في البحر، وهي غياب العدالة الاقتصادية، وتدهور التعليم، وغياب الحريات، وانسداد الأفق السياسي.
خمس حوادث دامية سبقت الحادثة
لم يكن حادث لامبيدوزا الأخير سوى حلقة جديدة في سلسلة طويلة من المآسي التي حصدت أرواح مئات المصريين منذ تولي السيسي السلطة عام 2014.
وفيما يلي أبرز خمس كوارث مشابهة:
1 - كارثة رشيد – سبتمبر 2016:
غرق مركب للهجرة غير الشرعية قبالة سواحل مدينة رشيد بمحافظة البحيرة، أسفر عن وفاة أكثر من 200 شخص معظمهم من المصريين، في واحدة من أبشع المآسي التي عرفها البحر المتوسط.
2 - غرق مركب الإسكندرية – نوفمبر 2019:
غرق قارب يقل عشرات الشبان المصريين أثناء محاولتهم الوصول إلى أوروبا من الساحل الشمالي، بعد انطلاقهم من قرية برج مغيزل بكفر الشيخ، وسط تجاهل رسمي تام.
3 - حادث سواحل ليبيا – يونيو 2022:
انتشال جثث نحو 30 شاباً مصرياً بعد غرق مركب كان يقل أكثر من 60 مهاجراً متجهين إلى إيطاليا، بينهم أطفال وقُصَّر، ومعظمهم من محافظات المنيا والفيوم وسوهاج.
4 - مأساة طبرق – سبتمبر 2023:
فقدان عشرات المصريين إثر غرق قارب للهجرة قبالة مدينة طبرق الليبية، كان يقل أكثر من مئة شخص، في حين تم إنقاذ 14 فقط.
5 - كارثة بنغازي – فبراير 2024:
وفاة ما لا يقل عن 15 مصرياً بعد غرق قارب خشبي انطلق من سواحل بنغازي في طريقه إلى إيطاليا، في ظل تزايد محاولات الهجرة من ليبيا بعد انهيار فرص العمل داخل مصر.
الهجرة كصورة للفشل الوطني
تتكرر هذه الحوادث بوتيرة مفزعة، لكن السلطة المصرية تتعامل معها ببرود لافت، وكأن الضحايا ليسوا من أبنائها.
ويرى محللون أن استمرار مأساة الهجرة غير الشرعية يعكس فشل النظام في بناء اقتصاد منتج، وفقدان الثقة في المستقبل داخل البلاد، حتى أصبح البحر خياراً أفضل من البقاء تحت حكمٍ يغلق الأبواب أمام الكرامة والعدالة.
في الوقت الذي تفاخر فيه الحكومة بإنجازات “وهمية”، يختار آلاف الشباب المصريين الهرب نحو المجهول، في مشهد يلخص عشر سنوات من الإفقار والقمع والتهميش، حيث لم يعد الموت غرقاً أكثر قسوة من الموت البطيء داخل الوطن.