تعيش مدينة قابس جنوب تونس هذه الأيام على وقع احتجاجات متصاعدة قد تشكّل نقطة تحول خطيرة في المشهد السياسي التونسي، وتعيد إلى الأذهان أجواء ما قبل اندلاع ثورات “الربيع العربي”. فالمطالب التي انطلقت من رحم المعاناة البيئية تحولت سريعًا إلى صرخة سياسية ضد الإهمال والسلطة المطلقة التي يمارسها الرئيس قيس سعيد منذ انقلابه على المؤسسات المنتخبة. ومع اتساع رقعة الغضب، بدأ الشارع يطرح سؤالًا جادًا: هل تكون قابس مهد ثورة جديدة على غرار ثورة 2011؟

 

تجددت التحركات الاحتجاجية في المحافظة للمطالبة بتفكيك الوحدات الصناعية التي تصدر انبعاثات سامة تسببت في حالات اختناق وضيق تنفس لدى الأهالي. ورغم أن هذه المطالب بيئية في ظاهرها، فإن عمقها الاجتماعي والسياسي أعمق بكثير؛ فالسكان يرون في استمرار هذه المصانع دليلاً على استخفاف السلطة بحياتهم وصحتهم، وامتدادًا لعقود من التهميش الذي حوّل الجنوب التونسي إلى منطقة منسية.

 

نظم المحتجون مظاهرة حاشدة أمام مقر المحافظة للتنديد بصمت الدولة وتجاهلها للمطالب القديمة بشأن معالجة الأوضاع البيئية الكارثية. ومع تصاعد الغضب، تدخلت قوات الأمن لتفريق المتظاهرين، ما أدى إلى مواجهات وأعمال عنف محدودة طالت بعض الممتلكات العامة. لكن الأخطر من ذلك، وفق منظمات حقوقية، هو أن السلطات أوقفت نحو مئة متظاهر وأودعتهم السجن، في مشهد يعيد إلى الأذهان ممارسات الأنظمة الاستبدادية التي سبقت سقوطها في ثورات الشعوب.

 

تُعد قابس من أكثر المناطق تلوثًا في تونس بسبب تركز مصانع تحويل الفوسفات، وقد ظل السكان يطالبون منذ سنوات بإيجاد حلول جذرية دون جدوى. واليوم، بات التلوث عنوانًا لانسداد الأفق السياسي والاقتصادي والاجتماعي في البلاد. فالمواطن الذي يختنق من الغازات السامة يختنق أيضًا من التضييق على الحريات ومن سياسات قيس سعيد التي أعادت تونس إلى مربع القمع والانفراد بالسلطة.

 

ويرى مراقبون أن الاحتجاجات الأخيرة لم تعد مجرد حركة مطلبية، بل تحمل ملامح تمرّد شعبي قد يتطور إلى حركة احتجاج وطنية، خصوصًا في ظل تدهور الوضع المعيشي وارتفاع نسب البطالة والفقر وانهيار الثقة بين الشعب والسلطة. فشعارات قابس لم تقتصر على “الحق في بيئة نظيفة”، بل امتدت إلى “الشعب يريد إسقاط التهميش” و”ارحل يا نظام القمع”، وهي شعارات تذكّر بشوارع سيدي بوزيد قبل 14 عامًا.

 

ويؤكد ناشطون أن تعامل السلطة مع الاحتجاجات بعقلية أمنية سيؤدي إلى عكس ما تريد، إذ يغذي شعور الإهانة والغضب الجماعي. فكل اعتقال جديد يضيف وقودًا للنار المشتعلة في صدور المواطنين الذين لم يعودوا يثقون في وعود الحكومة. أما الرئيس قيس سعيد، الذي جاء إلى الحكم بشعارات "محاربة الفساد وإعادة السيادة للشعب"، فقد تحول في نظر كثيرين إلى رمز للعجز والانغلاق السياسي، وسط أزمة اقتصادية خانقة وتدهور حاد في الخدمات الأساسية.

 

ويرى بعض المحللين أن الوضع في قابس يمكن أن يكون شرارة لاحتجاجات أكبر تشمل مدنًا أخرى، خاصة في الجنوب المهمش حيث ترتفع نسب البطالة والفقر. فكما كانت شرارة سيدي بوزيد عام 2010 بداية النهاية لنظام بن علي، قد تشكّل قابس اليوم بداية النهاية لنظام سعيد إذا استمر التعنت والإنكار.

 

في المقابل، تؤكد منظمات المجتمع المدني أن الاحتجاجات ستستمر سلمية، لكنها تحذر من أن غياب الحوار الحقيقي قد يدفع الشارع إلى الانفجار. وطالبت تلك المنظمات بإطلاق سراح جميع المعتقلين، وفتح ملف التلوث والعدالة البيئية، ووقف تسييس القضاء لقمع النشطاء.

 

إن ما يجري في قابس اليوم ليس مجرد احتجاج على دخان المصانع، بل هو احتجاج على دخان السياسة الخانق، على الوعود الكاذبة، وعلى سلطة فقدت حسها الإنساني والاجتماعي. فحين يصر المواطنون على حقهم في الحياة والكرامة، وحين يتحد غضب الجنوب مع يأس الشمال، تصبح كل الشروط مهيأة لانفجار ثوري جديد يعيد للناس صوتهم ولتونس روحها التي سلبها القمع.

 

لقد أثبتت قابس أن الشرارة لا تحتاج إلا إلى مظلمة حقيقية، وأن الشعوب مهما خُنقت بالغازات أو بالقوانين، لا تموت بل تنتظر لحظة الانفجار. والسؤال اليوم: هل يستمع قيس سعيد إلى أنين الجنوب قبل أن تتحول قابس إلى سيدي بوزيد جديدة؟