تأتي الزيادة الأخيرة في أسعار الوقود لتضيف فصلاً جديدًا في مسلسل طويل من السياسات الاقتصادية التي أنهكت المواطن المصري، وأغرقت ملايين الأسر في دوامة الفقر والجوع. فكل ارتفاع في سعر البنزين والسولار ينعكس مباشرة على أسعار السلع الغذائية والنقل والإنتاج، مما يجعل حياة المصريين أكثر قسوة يومًا بعد يوم. هذه القرارات، التي تُبرَّر دائمًا بضرورة “الإصلاح الاقتصادي”، تحوّلت عمليًا إلى وسيلة لامتصاص ما تبقى من دخول الطبقة المتوسطة والفقراء، دون أن يقابلها أي تحسن في الخدمات العامة أو الأجور.
قائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي يبدو عازمًا على المضي قدمًا في هذه “الرحلة القاسية”، التي وُصفت بأنها “تجويعٌ ممنهج” باسم التنمية، بينما تتزايد الفوارق الاجتماعية، وتتكدس الثروات في يد قلة قريبة من السلطة. ومع كل موجة غلاء جديدة، تتلاشى وعود “الحياة الكريمة” التي رُوّج لها في الإعلام الرسمي، ليبقى المواطن حائرًا بين لقمة العيش وفاتورة الكهرباء والمواصلات والدواء.
المصريون وسوء التغذية بالأرقام
تُظهر التقارير الرسمية والدولية أن مصر تعاني من أزمة حقيقية في التغذية، تُفاقمها الأوضاع الاقتصادية المتدهورة والارتفاع المستمر في أسعار الغذاء. وفقًا لتقديرات منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (فاو)، يعاني نحو 9.8 ملايين مصري من سوء التغذية المزمن، أي ما يقارب 10% من إجمالي السكان. وتشير إحصاءات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء إلى أن أكثر من 27% من الأطفال دون سن الخامسة يعانون من التقزم نتيجة نقص الغذاء وسوء نوعيته.
كما أن متوسط استهلاك الفرد من البروتين الحيواني تراجع بنسبة تقارب 35% خلال السنوات العشر الأخيرة، وهو ما يعكس تدهور القوة الشرائية وارتفاع أسعار اللحوم والدواجن والأسماك إلى مستويات غير مسبوقة. وفي ظل هذه الأزمة، لم تعد الأسر الفقيرة قادرة على توفير وجبتين متكاملتين يوميًا، إذ تشير دراسات محلية إلى أن واحدة من كل ثلاث أسر مصرية تلجأ إلى تقليل كميات الطعام أو الاستغناء عن بعض الوجبات بسبب الغلاء.
هذا التراجع في التغذية لا يقتصر على الفقراء فقط، بل امتد ليشمل شرائح واسعة من الطبقة المتوسطة، التي كانت حتى وقت قريب قادرة على توفير غذاء متوازن لأبنائها. ومع ارتفاع أسعار الوقود الأخيرة، يتوقع خبراء الاقتصاد أن ترتفع تكلفة نقل السلع الغذائية بنسبة تتراوح بين 10 و15%، ما يعني موجة جديدة من التضخم الغذائي تهدد الأمن الصحي والاجتماعي في البلاد.
أزمة الأمن الغذائي تتعمق
الأمن الغذائي في مصر بات مهددًا على نحو غير مسبوق، في ظل الاعتماد الكبير على الاستيراد لتلبية احتياجات المواطنين من القمح والزيوت واللحوم. وتشير بيانات برنامج الأغذية العالمي إلى أن نحو 17.3 مليون مصري يعانون من انعدام الأمن الغذائي بدرجات متفاوتة، أي ما يعادل 17% من السكان، بينما يعيش ثلث المصريين تقريبًا على حافة الفقر الغذائي.
الارتفاع المستمر في أسعار الوقود ينعكس على جميع مراحل سلسلة الإمداد الغذائي: من الزراعة والنقل والتخزين إلى التصنيع والتوزيع. ومع ضعف الدعم الحكومي وتآكل قيمة الجنيه المصري، يجد المواطن نفسه عاجزًا عن مواجهة الأسعار المتزايدة، في حين تتراجع كميات السلع المدعومة في بطاقات التموين، التي كانت تمثل شريان الحياة لملايين الأسر.
التقزم
شهدت مصر في عهد قائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي تفاقمًا خطيرًا في معدلات التقزم بين الأطفال، وهو أحد أبرز مؤشرات سوء التغذية المزمن وضعف السياسات الصحية والاجتماعية. فوفقًا لتقارير منظمة الصحة العالمية واليونيسف، يعاني نحو 27% من الأطفال المصريين دون سن الخامسة من التقزم، أي ما يعادل أكثر من 4 ملايين طفل يعانون من نقص التغذية المزمن وضعف النمو البدني والعقلي. هذه النسبة المرتفعة تعد من الأعلى في المنطقة، وتعكس تدهور جودة الغذاء وارتفاع معدلات الفقر التي تجاوزت 32% من السكان وفق الإحصاءات الرسمية. في ظل سياسات رفع الدعم وغلاء الأسعار المتواصل، أصبحت كثير من الأسر عاجزة عن توفير غذاء متوازن لأطفالها، ما أدى إلى جيل يواجه خطرًا حقيقيًا في الصحة والتعليم والإنتاج مستقبلاً. ويؤكد خبراء التغذية أن استمرار الأزمة دون تدخل حكومي فعّال يعني أن التقزم سيتحول إلى كارثة تنموية تهدد مستقبل مصر لعقود قادمة.
ورغم التحذيرات الأممية من تفاقم أزمة الأمن الغذائي في البلاد، تستمر الحكومة في تنفيذ سياسات تقشفية ترهق المواطنين، مثل رفع الدعم التدريجي عن الوقود والكهرباء، وفرض ضرائب ورسوم جديدة. كل ذلك يحدث بينما تتزايد الديون الخارجية وتتراجع الاستثمارات الإنتاجية، لتتحول الدولة إلى “مستهلك ضخم” يعتمد على القروض والمنح بدلًا من التنمية الحقيقية.
الزيادة الأخيرة في أسعار الوقود ليست مجرد قرار اقتصادي، بل هي خطوة جديدة في مسار سياسي هدفه تحميل الفقراء تكلفة فشل السياسات العامة. المصريون اليوم يواجهون خطر الجوع وسوء التغذية وانعدام الأمن الغذائي في وقت تُهدر فيه المليارات على مشروعات عملاقة لا تنعكس على معيشتهم. وبينما تتحدث الحكومة عن “إصلاحات ضرورية”، يتساءل المواطن البسيط: إصلاح لمن؟ فالواضح أن “رحلة السيسي في تجويع المصريين” ما زالت مستمرة، ولا يبدو أن نهايتها قريبة.