على الرغم من اختلاف الجغرافيا والسياسات، تبدو ملامح الأزمة الاجتماعية والاقتصادية في مصر ومدغشقر متطابقة على نحو لافت. ففي كلتا الحالتين، تآكلت القدرة الشرائية، تمدد الفقر، تراجعت الخدمات الأساسية، واتسعت الفجوة بين الخطاب الرسمي وتجربة الناس اليومية. وبينما انفجرت الأزمة في مدغشقر في صورة احتجاجات شبابية أطاحت برئيسها، تظل مصر تعيش الغليان الصامت نفسه، لكن تحت قبضة أمنية أكثر صلابة وخطاب حكومي أكثر إنكارًا للواقع.
اقتصاد هش ينهكه الغلاء والديون
في مصر، لم تعد الأزمة المعيشية قاصرة على الفقراء، بل امتدت لتشمل شرائح من الطبقة الوسطى التي فقدت قدرتها على مجاراة الأسعار بعد موجات متتالية من تعويم الجنيه ورفع الدعم عن الوقود والسلع الأساسية. وبينما يتحدث النظام عن “تحسن المؤشرات الاقتصادية” و“تراجع معدلات التضخم”، يعيش المواطنون على وقع زيادات حادة في أسعار الغذاء والسكن والمواصلات. التقارير المستقلة تشير إلى أن أغلب الأسر باتت تعتمد على بطاقات التموين أو المساعدات الخيرية لتلبية احتياجاتها الأساسية، بينما تتآكل دخولها الحقيقية بفعل موجات الغلاء التي لا تهدأ.
ورغم هذه المعاناة، يواصل النظام المصري مسار الاقتراض الكثيف، متباهياً بمشروعات عملاقة لا تترجم إلى تحسن ملموس في حياة الناس. ومع كل قرض جديد من صندوق النقد الدولي، تتضاعف أعباء الديون الخارجية التي تجاوزت 202 مليار دولار، في وقت تتراجع فيه الخدمات وتزداد البطالة. هذه المفارقة بين خطاب "الإصلاح الاقتصادي" وواقع الإفلاس الاجتماعي هي ما يجعل النموذج المصري مقلقًا، ليس فقط اقتصاديًا، بل سياسيًا أيضًا.
خدمات متدهورة تغذي الغضب الاجتماعي
كما في مدغشقر، تشكل الخدمات العامة في مصر نقطة توتر يومية. ففي حين فجّر انقطاع الكهرباء والمياه احتجاجات مدغشقر الأخيرة، يعاني المصريون من ارتفاع أسعار الغذاء والنقل والسكن، وتراجع جودة التعليم والصحة. الأزمات الخدمية لم تعد مجرد تفاصيل معيشية، بل أصبحت رمزًا لفشل الدولة في إدارة أبسط احتياجات مواطنيها.
الخبراء يحذرون من أن ما تسميه الحكومة "إصلاحًا" لا يعني سوى تباطؤ وتيرة الانهيار، لا وقفها. فبدون تغيير جوهري في السياسات العامة، ستظل الأزمات تتكاثر، بينما تُحمّل الطبقات الفقيرة والوسطى وحدها تكلفة السياسات النيوليبرالية التي يصر النظام على تسويقها كـ"ضرورة وطنية".
الفجوة بين الخطاب والواقع
الفجوة بين الخطاب الرسمي والواقع المعيشي أصبحت سمة دائمة في المشهد المصري. فبينما يصر قائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي ومسؤولوه على الحديث عن "إنجازات غير مسبوقة" و"تحسن المؤشرات الكلية"، يواجه المواطنون انهيارًا في الدخل الحقيقي وتآكلًا في مستوى معيشتهم.
في مدغشقر، انتهى هذا الانفصال بانفجار شعبي أطاح بالرئيس، حين أدرك الناس أن الوعود لا تطعم خبزًا ولا توفر كهرباء. أما في مصر، فلا يزال النظام يعتمد على خطاب "الاستقرار أولًا"، كذريعة لتبرير استمرار المعاناة، دون إدراك أن الاستقرار الحقيقي لا يُبنى على الخوف والقمع، بل على الثقة في العدالة والقدرة على العيش الكريم.
الأمن كأداة بقاء.. لا كوسيلة إصلاح
في مدغشقر، انحاز جزء من الجيش إلى الشارع ورفض إطلاق النار على المحتجين، مما أدى إلى انهيار النظام. هذا الدرس يحمل تحذيرًا واضحًا للأنظمة التي تعتمد على الأجهزة الأمنية كركيزة وحيدة للبقاء. فحين تتسع دائرة الغضب الاجتماعي، تصبح القبضة الحديدية عبئًا أكثر من كونها حماية.
أما في مصر، فيُبقي السيسي المشهد السياسي تحت سيطرة محكمة، مع غياب تام لقنوات التعبير السلمي أو التمثيل الشعبي الحقيقي، الأمر الذي يجعل أي انفجار اجتماعي محتمل أكثر حدة وصعوبة في الاحتواء.
الشباب.. وقود الغضب المكبوت
في مدغشقر، قاد جيل الشباب موجات الاحتجاج والإضرابات، بينما في مصر تتجلى نقمتهم في الفضاء الرقمي وحياة يومية مثقلة بالإحباط. جيل كامل نشأ في ظل انسداد سياسي وغلاء متفاقم، لا يرى أفقًا واضحًا للمستقبل. ومهما حاولت السلطة احتواء الغضب، فإن تراكم الأزمات يجعل الانفجار مسألة وقت، لا احتمالًا بعيدًا.
خلاصة المشهد
تشترك مصر ومدغشقر في بنية اقتصادية هشة، وخدمات متدهورة، وشرعية سياسية متآكلة. لكن الفرق أن مدغشقر انفجرت، بينما مصر ما زالت تكتم أنينها. ومع استمرار الفجوة بين خطاب السلطة وواقع الناس، تبدو مصر على حافة لحظة مماثلة، ما لم يدرك النظام أن الشرعية لا تُصان بالمشروعات الدعائية ولا بالقروض الخارجية، بل بتحسين حياة المواطنين الذين لم يعودوا يصدقون وعود “الإصلاح” في بلد يصدر النور للخارج ويعيش في ظلام الأزمات.