تواصل حكومة مدبولي المضيّ في سياساتها التوسعية في التفريط وبيع شواطئ الساحل الشمالي، بإطلاق مشروع جديد لإنشاء مدينة ضخمة غرب رأس الحكمة على مساحة تقارب 110 آلاف فدان، ضمن خطة تستهدف إنشاء سلسلة من المدن والمشروعات السياحية على غرار العلمين الجديدة، فاتحة خط من المفاوضات مع مستثمرين إماراتيين.

لكن خلف هذه الخطط الطموحة، تتصاعد الأسئلة حول جدوى تلك المشاريع، وأولوياتها في ظل أزمة اقتصادية خانقة وبيع متزايد لأراضي الدولة لصالح مستثمرين أجانب.

 

تفريط جديد بنفس النهج

بحسب مصدر مطلع بهيئة المجتمعات العمرانية الجديدة، تعمل الهيئة على إعداد المخطط العام للمدينة الجديدة، تمهيدًا لبدء تنفيذ أعمال البنية التحتية خلال العام المقبل. وأوضح المصدر أن الحكومة تدرس تخصيص أجزاء من المساحة الضخمة لمشروعات سياحية واستثمارية مستقلة، على أن يتم طرحها تباعاً أمام مستثمرين محليين وأجانب.

وأضاف المصدر، الذي طلب عدم الكشف عن هويته، أن هناك مفاوضات جارية مع مستثمرين إماراتيين للحصول على قطعة أرض ضمن المنطقة، تمهيدًا لتقديم عرض فني ومالي بعد انتهاء المباحثات، ما يشير إلى أن الأراضي الساحلية المصرية باتت جزءًا من بازار استثماري مفتوح أمام رأس المال الخليجي، دون إعلان واضح عن الشروط أو نسب العائد للدولة المصرية.

 

توسع في الخصخصة العقارية

تأتي هذه الخطوة في سياق ما يبدو أنه سياسة متكاملة لخصخصة الساحل الشمالي، إذ لم تمضِ أسابيع قليلة على إعلان استثمار قطري جديد في منطقة "علم الروم" المجاورة، بلغت قيمته 4 مليارات دولار مقابل 5 آلاف فدان، بحسب ما نقلته وكالة بلومبرج.

ويتساءل مراقبون اقتصاديون عن مدى تناسب هذه القيمة مع موقع الأرض وسعرها الحقيقي في سوق العقارات المصري، خصوصًا في ظل غياب الشفافية حول آليات التقييم والتخصيص، وتكرار بيع الأراضي في صفقات يجري التفاوض بشأنها خلف الأبواب المغلقة.

 

مدن جديدة... أم إعادة تفريط في ثروات المصريين؟

يقول خبير عمراني تحدث لمواقع عربية إن هذا التوجه المتسارع لإنشاء مدن فاخرة لا يعكس احتياجات المواطنين بقدر ما يخدم مصالح فئة محدودة من المستثمرين والمضاربين العقاريين، موضحًا أن المليارات التي تُضخ في البنية التحتية الساحلية كان يمكن أن تساهم في إحياء المدن الداخلية التي تعاني تراجع الخدمات وارتفاع نسب البطالة.

ويرى الخبير أن تحويل مناطق مثل سملا وعلم الروم إلى مدن سياحية فاخرة “لن يخلق تنمية حقيقية بقدر ما يعمق الفجوة الاجتماعية”، مشيرًا إلى أن المشروعات الساحلية لا تولد وظائف مستدامة ولا تسهم في تحسين مستوى المعيشة لسكان مطروح أو المناطق المجاورة، الذين يجدون أنفسهم غالبًا مستبعدين من الاستفادة من تلك المشاريع.

 

إرث رأس الحكمة: صفقة إماراتية مثيرة للجدل

يأتي المشروع الجديد في ظل الجدل المستمر حول صفقة رأس الحكمة التي وُقعت مع تحالف إماراتي في أكتوبر/ تشرين الأول 2024 بقيمة 35 مليار دولار، والتي وُصفت بأنها "أضخم استثمار أجنبي مباشر في تاريخ مصر".

لكنّ تقارير اقتصادية مستقلة شككت في طبيعة الصفقة، معتبرة أنها أقرب إلى عملية بيع واسعة للأراضي أكثر من كونها استثمارًا إنتاجيًا. كما أثارت تساؤلات حول مدى استفادة الاقتصاد المحلي من تلك المبالغ، خاصة مع استمرار أزمة النقد الأجنبي وتراجع الجنيه، ما جعل كثيرين يرون أن الحكومة تفرّط في أصولها العقارية لتعويض نقص السيولة لا أكثر.

 

تراث مهمل وهوية مهددة

تقع منطقة علم الروم شرق مدينة مرسى مطروح، وتُعرف تاريخيًا بوجود حصن روماني قديم فيها، ما يمنحها قيمة أثرية وثقافية كبيرة. غير أن تحويلها إلى مشروع سياحي جديد يثير مخاوف المهتمين بالتراث، الذين يحذرون من طمس هوية المنطقة التاريخية لصالح استثمارات عقارية لا تراعي الخصوصية الثقافية للمكان.

 

غياب الشفافية والمساءلة

ورغم اتساع حجم الصفقات العقارية الحكومية خلال الأعوام الأخيرة، ما زالت آليات اتخاذ القرار وتوزيع العوائد غير واضحة. فبينما تروج الحكومة لمشروعات المدن الجديدة باعتبارها “قاطرة التنمية”، تُشير بيانات المؤسسات المالية إلى أن الديون الخارجية في تصاعد مستمر، فيما لم ينعكس بيع الأراضي والعقارات على تحسين الخدمات العامة أو خفض الأسعار.

ويرى محللون أن المشكلة لا تكمن في جذب الاستثمارات بحد ذاتها، بل في غياب الشفافية والمساءلة العامة، إذ تُتخذ القرارات بعيدًا عن البرلمان والمجتمع المدني، بينما تُدار ملفات الأراضي وكأنها “ملكية خاصة للدولة”، لا أصول عامة يحق للمواطنين معرفة تفاصيل التصرف فيها.

الخلاصة أن الحكومة إلى تقديم مشروع “غرب رأس الحكمة” كجزء من خطة قومية للتنمية العمرانية، غير أن الواقع يكشف عن تحول متسارع في ملكية الأراضي العامة لصالح مستثمرين أجانب، من دون نقاش مجتمعي أو استراتيجية واضحة لضمان العائد الوطني.

وبينما تُطرح هذه المشروعات كرمز للحداثة والانفتاح، يراها كثيرون رمزًا لتراجع السيادة الاقتصادية وابتعاد التنمية عن أولويات المواطن المصري، الذي يجد نفسه في النهاية مجرد متفرج على بلاده وهي تُعاد هندستها... قطعةً قطعة.