في تحدٍ مباشر لحكومة رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، ومساعيها لفرض قيود مشددة على الاحتجاجات، اشتعلت العاصمة لندن ومدن بريطانية أخرى بمظاهرات حاشدة شارك فيها مئات الآلاف، رفضاً للحرب الإسرائيلية المستمرة على قطاع غزة، والتي يصفها المتظاهرون بأنها "إبادة جماعية". وتحولت شوارع العاصمة البريطانية إلى ساحة مواجهة مفتوحة بين غضب شعبي متصاعد، وسلطة تحاول جاهدة احتواء حركة احتجاجية أثبتت أنها أكبر وأكثر عناداً من كل محاولات القمع والترهيب.
 

 

غضب شعبي في وجه السياسات الحكومية

خرج مئات الآلاف من المتظاهرين، من مختلف الأعمار والانتماءات، في مسيرات ضخمة انطلقت في قلب لندن، وتحديداً من ساحة البرلمان وساحة ترافالغار، رافعين الأعلام الفلسطينية ولافتات تندد بالصمت الدولي وتواطؤ الحكومة البريطانية. تركزت مطالب المحتجين على أهداف واضحة ومحددة: وقف فوري لإطلاق النار، وإنهاء الحصار الخانق المفروض على غزة، ووقف تصدير الأسلحة البريطانية إلى إسرائيل، ومحاسبة المسؤولين عن جرائم الحرب.

تزامنت هذه الموجة الاحتجاجية مع الذكرى الثانية لهجمات السابع من أكتوبر، وهو ما زاد من حدة التوتر. فبينما تحيي الجالية اليهودية ذكرى مؤلمة، يرى المتظاهرون في هذا التاريخ بداية لعامين من "الإبادة الممنهجة" التي أودت بحياة أكثر من 67 ألف فلسطيني، بحسب أرقام وزارة الصحة في غزة.

 

ستارمر وحكومته في مأزق

وجدت حكومة حزب العمال، بقيادة كير ستارمر، نفسها في مأزق حقيقي. فمن جهة، يواجه ستارمر ضغطاً هائلاً من الشارع ومنظمات حقوق الإنسان، وحتى من داخل حزبه، لاتخاذ موقف أكثر صرامة تجاه إسرائيل. ومن جهة أخرى، تسعى الحكومة لإظهار دعمها لإسرائيل وتأمين الجالية اليهودية التي تقول إن هذه المظاهرات تثير لديها "خوفاً كبيراً".

وقد وصف ستارمر بنفسه خطط الطلاب للاحتجاج في ذكرى 7 أكتوبر بأنها "غير بريطانية"، معتبراً أنها تظهر "قلة احترام للآخرين"، واتهم بعض الاحتجاجات السابقة بأنها كانت ذريعة "بغيضة لمهاجمة اليهود البريطانيين". ورددت وزيرة الداخلية، شبانة محمود، نفس النبرة، مؤكدة أن هذه الاحتجاجات الكبيرة والمتكررة سببت "خوفاً كبيراً" في أوساط الجالية اليهودية، وهو ما تستخدمه الحكومة كمبرر رئيسي لتشديد قبضتها الأمنية.

 

قبضة أمنية مشددة لمواجهة الاحتجاجات

رداً على استمرار المظاهرات، منحت الحكومة البريطانية الشرطة صلاحيات جديدة وأوسع لتقييد الاحتجاجات، بهدف قمع الحراك المرتبط بغزة بشكل خاص. تسمح هذه الصلاحيات للشرطة بأخذ "الأثر التراكمي" للاحتجاجات المتكررة في منطقة معينة بعين الاعتبار عند فرض شروط على المسيرات، وصولاً إلى إمكانية حظرها بالكامل.

هذه الإجراءات لم تمنع المتظاهرين من الخروج إلى الشوارع، لكنها أدت إلى اعتقال المئات. ففي إحدى المظاهرات الداعمة لمنظمة "فلسطين أكشن" (Palestine Action) المحظورة، أوقفت الشرطة أكثر من 890 شخصاً في يوم واحد، في مؤشر واضح على نية السلطات استخدام القوة لفرض النظام من وجهة نظرها.

 

انقسام داخل حزب العمال الحاكم

لا يقتصر الضغط على ستارمر على الشارع فقط، بل يمتد إلى داخل أروقة حزبه والبرلمان. ففي خطوة كشفت عمق الانقسام، وقع أكثر من 60 نائباً برلمانياً، من بينهم نواب من حزب العمال الحاكم، على رسالة تطالب الحكومة بمنع زيارة الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ إلى لندن، متهمين إياه بدعم "الإبادة الجماعية" في غزة.

هذا الموقف يضع ستارمر في مواجهة مباشرة مع جزء من قاعدته السياسية، ويظهر أن سياسته الداعمة لإسرائيل، رغم الانتقادات الشكلية، لا تحظى بإجماع داخل حزبه، مما يضعف موقفه ويزيد من عزلته السياسية داخلياً.

وختاماً، يبدو أن الشارع البريطاني قد قال كلمته، محولاً قضية غزة إلى أزمة سياسية واجتماعية عميقة داخل بريطانيا. وبينما يعجز كير ستارمر عن إيجاد صيغة ترضي الشارع الغاضب دون التخلي عن حلفائه، تواصل لندن الاشتعال بالمظاهرات، مؤكدة أن صوت التضامن مع فلسطين لن يتم إسكاته بسهولة، مهما بلغت شدة القبضة الأمنية.