شهدت الأيام الأخيرة موجة زيادات جديدة في الرسوم الإدارية والعمولات داخل عدد من البنوك المصرية الكبرى، في خطوة أثارت استياءً بين العملاء الذين يرون أن هذه الزيادات، التي قد تبدو طفيفة في أرقامها المجردة التي تتراوح بين 25 و75 جنيهاً، إلا أنها في جوهرها تمثل حلقة أخرى في سلسلة من السياسات الاقتصادية التي تتبناها الحكومة وتصب في النهاية في خانة استنزاف جيوب المصريين، تحت مبررات واهية لا تصمد أمام حقيقة الأوضاع المعيشية المتدهورة.

فهذه الخطوة ليست مجرد قرار إداري داخلي للبنوك، بل هي مؤشر واضح على غياب الرؤية الاجتماعية لدى الحكومة، التي يبدو أنها تبارك وتدعم بصمت كل إجراء يزيد من أعباء مواطنيها بدلاً من التخفيف عنهم.
 

زيادات تدريجية على حسابات العملاء
بدأ البنكان الحكوميان الأكبر في السوق، الأهلي المصري وبنك مصر، تنفيذ الزيادات الجديدة على عدد من الخدمات البنكية للأفراد، شملت الحسابات الجارية والتوفير وبطاقات الخصم وكشوف الحساب الورقية.

فقد رفع البنك الأهلي المصري رسومه الربع سنوية على الحسابات الكلاسيكية والماسية إلى 75 جنيهًا بدلًا من 50 جنيهًا، كما ارتفعت مصروفات الحسابات ذات الأرصدة الأعلى (من 700 ألف حتى أقل من 2 مليون جنيه) إلى 100 جنيه، في حين وصلت الرسوم الإدارية لكبار العملاء (من 2 إلى 20 مليون جنيه) إلى 125 جنيهًا.

أما رسوم إصدار وتجديد بطاقات الخصم المباشر فزادت إلى 125 جنيهًا، وارتفعت رسوم بطاقات “جولد” إلى 150 جنيهًا، بينما وصلت رسوم كشف الحساب الورقي السنوي إلى 100 جنيه بدلًا من 75 جنيهًا.

في المقابل، اتجه بنك مصر لزيادات مماثلة، حيث رفع مصروفات كشف الحساب الدورية إلى 150 جنيهًا بدلًا من 75 جنيهًا، وزاد الرسوم الربع سنوية على الحسابات بمقدار 25 جنيهًا لتتراوح بين 75 و125 جنيهًا، كما رفع عمولة الحد الأدنى للرصيد إلى 30 جنيهًا بدلًا من 10 جنيهات عند انخفاض الرصيد دون 5 آلاف جنيه.
 

"تكلفة التشغيل" المبرر الرسمي
بررت مصادر مصرفية الخطوة بأنها استجابة لارتفاع تكاليف التشغيل التي تشمل الأجور، الإيجارات، التأمين، وتحديث الأنظمة الرقمية.

وقال مسؤول عمليات بأحد البنوك إن “هذه الزيادات تأتي نتيجة الضغوط التشغيلية المتزايدة التي تواجهها المؤسسات المالية في ظل التضخم، وارتفاع أسعار الخدمات التقنية والإدارية”، مضيفًا أن “البنوك لم تعد تعتمد فقط على العائد من الإقراض، بل تبحث عن تنويع مصادر دخلها من خلال العمولات والرسوم”.

وأكد المصدر أن تحديد قيمة الزيادة يختلف من بنك إلى آخر بحسب التكلفة والدخل المستهدف، مشيرًا إلى أن “الزيادات رغم اتساعها تظل محدودة نسبيًا مقارنة بتكاليف الخدمة الفعلية”.
 

مخاوف من التأثير على الشمول المالي
ورغم تبريرات البنوك، أثارت الخطوة مخاوف بشأن انعكاسها على جهود الدولة لتعزيز الشمول المالي، أي إدماج أكبر عدد من المواطنين في النظام المصرفي الرسمي.

لكن أحد مسؤولي البنوك الحكومية استبعد حدوث تأثير ملموس، مشيرًا إلى أن “البنوك تنفذ بشكل دوري مبادرات لفتح الحسابات مجانًا أو بدون حد أدنى للرصيد، مما يعوض الزيادات الأخيرة”.
وأشار إلى أن عدد المصريين الذين يمتلكون حسابات مالية نشطة ارتفع إلى 53.8 مليون شخص بحلول يونيو 2025، أي نحو 76.3% من السكان البالغين، مقارنة بـ74.8% في نهاية 2024، بحسب بيانات البنك المركزي المصري.
 

تراجع الفائدة يعيد هيكلة مصادر الدخل
ويرى محللون مصرفيون أن القرار يرتبط أيضًا بتراجع أسعار الفائدة في السوق، ما قلل من أرباح البنوك من عمليات الإقراض، ودفعها إلى إعادة هيكلة مصادر دخلها، والتركيز على العمولات والأتعاب الثابتة.
وأوضح أحد مسؤولي التجزئة المصرفية أن “هذه الزيادات ليست عشوائية، بل جزء من خطة لإعادة توزيع الأعباء التشغيلية بطريقة تتناسب مع شرائح العملاء”، مضيفًا أن “من يمتلك حسابًا أكبر يدفع رسومًا أعلى، ومن يفضل الخدمات الورقية أو داخل الفروع يتحمل التكلفة الإضافية مقابل الخدمة”.

وأشار إلى أن التحول الرقمي في القطاع المصرفي، رغم أهميته في تسهيل الخدمات، يفرض في الوقت نفسه تكاليف متزايدة على البنوك لتطوير البنية التكنولوجية وتدريب الموظفين وتأمين البيانات، وهو ما يُعاد تحميل جزء منه على العملاء.
ويرى العملاء في هذه الخطوة تحميلًا لهم أعباء إضافية دون مقابل حقيقي، في وقت تراجعت فيه جودة الخدمة داخل بعض الفروع وزادت فترات الانتظار، معتبرين أن “البنوك تبحث عن الربح السريع ولو على حساب راحة عملائها”.

وختامًا، فإن موجة زيادة الرسوم البنكية ليست مجرد خبر اقتصادي عابر، بل هي انعكاس لأزمة حكم عميقة، حيث تتعامل السلطة مع المواطنين كمجرد أرقام في معادلات الميزانية ومصادر لتمويل عجزها. وفي حين قد تنجح البنوك في تعزيز دفاتر أرباحها، وتنجح الحكومة في الحفاظ على استقرار مؤشراتها المالية الكلية، فإن الخاسر الأكبر هو المواطن الذي يفقد الثقة يوماً بعد يوم في مؤسسات دولته، ويشعر بأنها تعمل ضده لا لصالحه.