بقلم: وائل قنديل
المقطوع به، والمعلوم، من السياسة العربية الرسمية بالضرورة، أن أحداً لا يملك لغزّة إلا وساطة في إطار وصاية أميركية على القضية التي ظلّت عقوداً تسمّى "المركزية" بالنسبة إلى العرب من المحيط إلى الخليج. إذ يلتزم الجانب العربي في الوساطة بما يراه ويقرّره الرئيس الأميركي، وما يمنحه من شهادات حسن السيرة والسلوك لأطراف الصراع.
النقطة المفصلية في مشروع الصفقة الذي جرى تصميمها وهندستها في البيت الأبيض، برؤية أميركية خالصة هي البحث عن انتصار أقلّ كلفةً للاحتلال الصهيوني، ونهاية هادئة للعدوان على الشعب الفلسطيني، تنهي القتال، لكنّها لا تنهي الأطماع والأحلام الصهيونية في إعادة تقسيم فلسطين وفقاً للخرائط الديموغرافية التي تحدّدها إسرائيل، بما يشمله ذلك من التحكّم في عدد السكّان الفلسطينيين وإعادة توزيعهم جغرافياً، بما يفضي، في نهاية المطاف، إلى توفير أقصى درجات الهدوء والراحة والطمأنينة للاحتلال في الأراضي الفلسطينية، من خلال لاءات الكيان الصهيوني الثلاث: لا سلاح... لا مقاومة... لا انسحاب من أيّ أرض ترى تلّ أبيب أنها لازمة لأمانها.
اليوم تجد حركة حماس نفسها في القاهرة أمام غلاة الصهاينة الأميركيين والإسرائيليين في مفاوضات نصف مباشرة بين الاحتلال والمقاومة، إذ تشير سيناريوهات متداولة في الميديا الصهيونية إلى أن رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، خليل الحيّة، سوف يجلس في غرفة مجاورة للوفد الإسرائيلي، وسيكون نائب رئيس الشاباك جزءاً من هذا الوفد، بينما من الجانب الأميركي سيكون كل من صهر ترامب، جاريد كوشنر، ومبعوثه ستيف ويتكوف، في مهمّة رئيسة بهذه الجولة، وهي استرجاع أسرى الاحتلال لدى المقاومة دفعةً واحدةً، قبل أي حديث عن انسحاب وإنهاء للحرب، على الرغم من أن دونالد ترامب كان قاطعاً وصارماً ليل الجمعة، وهو يوجّه حديثه إلى مجرم الحرب بنيامين نتنياهو بضرورة وقف القصف فوراً، في أعقاب ترحيب الرئيس الأميركي ببيان حركة حماس، الذي كتب بميزان من ذهب لكل فقرة فيه.
بعيداً عن أن القصف لم يتوقّف، وأن العدوان لم تقلّ وتيرته، إذ لم يعد الأمر سوى لحظة انتشاء ترامبية عابرة، فإن المستقرّ في عقيدة عجوز البيت الأبيض ضرورة خروج الكيان الصهيوني منتصراً بشكل كامل: "قلتُ لبيبي (نتنياهو) هذه فرصتك للنصر. وكان موافقاً على ذلك". هكذا صرّح ترامب بعد يوم كامل من صيحة "أوقف القصف فوراً"، التي لم يُعرها الصهيوني اهتماماً بالطبع، ليأتي ستيف ويتكوف مبعوث ترامب بعد ذلك وكأنّه يقرّ بحقّ الاحتلال في البقاء في غزّة وقصفها، ليكمل: "لدى الولايات المتحدة خطّة لنشر القوات الإسرائيلية... تسمح لحماس بتحديد مكان الأسرى وجمعهم وإعادتهم".
في هذه الأجواء، تخوض المقاومة معركة التفاوض على خطّة ترامب، وحيدةً كما كانت طوال العامَين الماضيَّين، إذ لا يتعدّى دور الطرف العربي في عملية الوساطة استضافةَ الوفود، ونقل الرسائل بين الطرفَين، رافعين شعارات الحياد والمسافة الواحدة من الطرفَين، أو باختصار هم جزء من الشقّ الإجرائي للعملية التي ينفرد بقيادتها الرئيس الأميركي، الباحث عن النصر لإسرائيل، وعن إعادة ترميم صورتها في العالم، بنص تصريحاته أخيراً.
في ذلك، تُنبئنا دراما ليلة الجمعة المثيرة بتوقيت الشرق الأوسط أن كل الأطراف امتنعوا عن إصدار تصريحات أو تعليقات بشأن بيان "حماس" ردّاً على رسائل ترامب العنيفة لها، حتى قرّر الرئيس الأميركي أن يردّ على الردّ، مرحباً ببيان الحركة، بعد ذلك فقط وجدنا هرولةً للترحيب ببيان الحركة، فأعلنت الخارجية المصرية ترحيبها عند الساعة 12:25 بعد منتصف الليل بتوقيت القدس المحتلة والقاهرة والدوحة، ثمّ لحقت بها الخارجية القطرية بعد عشر دقائق، أي بعد حوالي 50 دقيقة من تصريح ترامب المرحّب، الذي نشره في منصته تروث سوشيال عند الساعة 11:44 قبل منتصف الليل بالتوقيت ذاته، لتندلع بعدها موجات ترحيب في عواصم أوروبية، إلى أن قرّرت الدول العربية والإسلامية الثماني، التي اجتمع بها ترامب على هامش الأمم المتحدة قبل أكثر من أسبوع، إصدار بيان ترحيب جماعي بخطوة "حماس".
نتمنى ألا يسجل التاريخ العربي أن الجميع تركوا المقاومة وحيدةً في قلب عاصفة الوساطة الترامبية.