في مشهد يختصر حال المؤسسات الثقافية في مصر، تحوّل مشروع صيانة المتحف المصري العريق في ميدان التحرير إلى مادة للسخرية العامة، بعد سقوط جزء من كورنيشة السقف المزخرفة في القاعة الكبرى بالدور الثاني مساء الجمعة الماضية.

الواقعة، التي جاءت في قلب مشروع ترميم بتكلفة ملايين الجنيهات، لم تسفر عن خسائر في الأرواح أو الأثر، لكنها كشفت عن خلل أعمق في منظومة الإدارة والإشراف، وعن فوضى تضرب قلب أقدم وأهم متحف أثري في الشرق الأوسط.
 

مشروع التطوير يتحول إلى مصدر خطر
بينما كانت وزارة السياحة والآثار تتباهى بما وصفته بـ"مشروع شامل لتحديث وتطوير المتحف المصري"، جاءت الحادثة لتقلب الصورة رأساً على عقب.

سقوط الكورنيشة الجصية لم يكن عرضياً كما حاولت الجهات الرسمية تصويره، بل كان نتيجة مباشرة لأعمال الصيانة الجارية نفسها، بحسب مصادر داخل المتحف.
ويقول أحد العاملين، طالباً عدم ذكر اسمه، إن المقاولين استخدموا أدوات غير مناسبة في تنظيف الزخارف، ما تسبب في تصدع أجزاء من السقف، مضيفاً أن "العمل يتم بسرعة ودون إشراف هندسي متخصص".

التصريحات الرسمية اكتفت بالتأكيد أن "الحادث بسيط"، وأن المتحف استأنف استقبال الزوار بشكل طبيعي، لكن هذا التبرير بدا كمن يغطي الشمس بغربال. فالمفارقة أن أعمال الصيانة التي يُفترض أن تحافظ على المبنى هي التي تسببت في انهيار جزء منه، في دلالة واضحة على انعدام الرقابة وضعف الكفاءة الفنية.
 

من سرقة السوار إلى سقوط السقف: فشل لا ينتهي
حادثة السقف لم تكن الأولى التي تهز المتحف في الأشهر الأخيرة. فقد سبقتها جريمة سرقة غريبة تمثلت في اختفاء سوار ذهبي نادر من داخل معمل الترميم، سرقته موظفة تعمل في المكان منذ سنوات.

التحقيقات كشفت آنذاك أن المعمل الأثري الأهم في مصر يعمل منذ أكثر من عقدين دون كاميرات مراقبة، في فضيحة دوّت أصداؤها في الأوساط الأثرية العالمية.
واليوم، يأتي سقوط السقف ليكمل المشهد المأساوي. فبينما كشفت السرقة عن فساد إداري وأمني، فإن الانهيار كشف عن خلل هندسي خطير. الاثنان معاً يشيران إلى فشل شامل في إدارة أحد أهم رموز التراث المصري.
 

تاريخ طويل من الإهمال
الحادث الأخير ليس سوى حلقة جديدة في سلسلة طويلة من التدهور الذي يعانيه المتحف المصري منذ عقود.

تقارير فنية عديدة حذرت قبل بدء مشروع الترميم من حالة المبنى المزرية: أسقف متشققة تتسرب منها مياه الأمطار، وجدران متآكلة، وأرضيات رخامية متهشمة استُبدلت ببلاطات حديثة لا تناسب الطراز التاريخي للمكان.
أما أنظمة الصرف والإضاءة فوصفت بأنها "بدائية وغير آمنة"، ما جعل المتحف في حاجة إلى خطة إنقاذ علمية لا إلى ديكور تجميلي.

ومع ذلك، بدا أن مشروع "التطوير" الجاري قد تبنّى منهج "الترميم السريع"، دون مراعاة لحساسية المبنى الأثري أو طبيعة المواد المستخدمة فيه. وكما حدث سابقاً في فضيحة "لحية توت عنخ آمون" التي أُصلحت بغراء صناعي، تتكرر اليوم الأخطاء نفسها لكن على نطاق أوسع وأكثر خطورة.
 

أزمة إدارة قبل أن تكون أزمة مبنى
إن ما جرى داخل المتحف المصري لا يمكن عزله عن أزمة الإدارة العامة للآثار في مصر، حيث تتكرر الكوارث من دون محاسبة حقيقية.
فعندما تصبح الصيانة سبباً للانهيار، وحين يتحول المكان المفترض أن يحفظ التاريخ إلى مصدر خطر عليه، فإننا أمام منظومة مريضة تحتاج إلى مراجعة جذرية.

ويؤكد خبراء آثار أن ما يجري "يعكس غياب المنهج العلمي واحتكار القرار الفني داخل الوزارة"، مشيرين إلى أن أغلب مشروعات التطوير تُسند إلى شركات مقاولات غير متخصصة في ترميم الأبنية الأثرية.
 

صرخة تحذير قبل الكارثة القادمة
سقوط جزء من سقف المتحف المصري ليس مجرد حادث عرضي، بل جرس إنذار صاخب.
إنه يكشف عن أزمة عقلية إدارية لا تقل خطورة عن الإهمال الفني، ويضع علامات استفهام حول جدوى مشروعات "التطوير" التي تُعلن بالأرقام لا بالنتائج.
فإذا كان "شيخ المتاحف" بهذا الحال، فكيف هو حال المتاحف الأقل شهرة والأكثر تهميشاً؟

الواقعة الأخيرة يجب ألا تمر مرور الكرام. فالمطلوب اليوم ليس بيان تهدئة أو تبريراً بيروقراطياً، بل مراجعة شاملة لمشروع التطوير ولمنظومة إدارة المتاحف كلها.
فقد سقطت الكورنيشة، لكن ما هو أخطر هو سقوط الثقة في قدرة الدولة على حماية تاريخها.