يشهد العام الدراسي الجديد (2024–2025) في القدس المحتلة تصعيدًا خطيرًا في محاولات الاحتلال الإسرائيلي لطمس الهوية الوطنية الفلسطينية عبر قطاع التعليم، وذلك من خلال فرض مناهج إسرائيلية بديلة، والتضييق على المدارس الفلسطينية، وإغلاق مدارس وكالة "أونروا" التي شكّلت لعقود ركيزة أساسية للتعليم الوطني.
وقد نجحت هذه السياسات في إيجاد أرضية خصبة لفرض "البجروت" الإسرائيلي على الطلاب المقدسيين، وسط ضغوط اقتصادية واجتماعية، وغياب الحوافز الكافية لتثبيت خيار التعليم الفلسطيني.
وبينما تحاول العائلات والهيئات المقدسية مواجهة هذه المخططات بالإضرابات والتوعية، يواصل الاحتلال ضخ سياساته وإجراءاته القمعية بهدف تحقيق اختراق استراتيجي يقود إلى تفريغ القدس من مضمونها الثقافي والتاريخي الفلسطيني، وتحويل أجيالها الصاعدة إلى مجرد تابع في المنظومة الإسرائيلية.
مدارس القدس بين المناهج الفلسطينية والإسرائيلية
تنقسم المدارس المقدسية إلى عدة أنماط، أبرزها مدارس الأوقاف الإسلامية والمدارس الخاصة الفلسطينية التي ما زالت متمسكة بالمنهاج الفلسطيني، بينما تعتمد المدارس التابعة لبلدية الاحتلال ووزارة "المعارف" المنهاج الإسرائيلي المعروف بـ "البجروت".
وقد شكّلت مدارس "أونروا" سدًا منيعًا أمام هذه السياسات، إلا أن إغلاقها مؤخرًا فتح الطريق أمام تغوّل الاحتلال، الذي بدأ يفرض مناهجه على نطاق أوسع، ويمارس سياسات الترغيب والترهيب لإجبار الطلبة وأولياء الأمور على الانصياع.
تعيينات مثيرة للجدل لتعزيز مخطط التهويد
عملت سلطات الاحتلال مع بداية العام الدراسي على جلب معلمين ومديرين من خارج القدس، بعضهم من فلسطينيي الداخل المحتل، يحملون توجهات متماهية مع السياسات الإسرائيلية، أو يسعون وراء امتيازات تمنحها وزارة "المعارف".
كما منعت السلطات المدارس التابعة للأوقاف والجهات الفلسطينية من توسيع صفوفها أو تطوير برامجها، في محاولة لإضعاف بنيتها التعليمية، وزرع كوادر تعليمية تخدم أهداف التهويد بعيدًا عن خصوصية القدس التاريخية والثقافية.
أولياء الأمور بين الإضرابات وضعف التوعية
بحسب رئيس مجلس أولياء أمور الطلبة في سلوان، رمضان طه، فإن الأهالي يدركون خطورة المنهاج الإسرائيلي، لكن ضعف التوعية الفلسطينية ساهم في زيادة عدد المسجلين في "البجروت".
فبعد أن نجحت حملات سابقة في تقليص الإقبال عليه، تراجعت الجهود خلال السنوات الأخيرة، بينما ضاعفت إسرائيل حملاتها لفرض مناهجها.
ويشير طه إلى أن الحوافز الفلسطينية تكاد تكون معدومة، فالميزة الوحيدة للمنهاج الفلسطيني هي إضافة خمس علامات عند الالتحاق بالجامعات، وهو ما لا يكفي لإقناع الطلبة برفض المنهاج الإسرائيلي.
إحصاءات متضاربة وضغوط إسرائيلية متصاعدة
تشير جمعية "عِير عَمّيم" الحقوقية الإسرائيلية إلى أن عدد الطلاب المقدسيين الملتحقين بالمنهاج الإسرائيلي بلغ هذا العام نحو 22,966 طالبًا، أي ما يعادل 27% من الفئة العمرية (6–17 عامًا)، فيما تزعم سلطات الاحتلال أن النسبة قاربت 48%.
ويرى خبراء أن هذه الأرقام مبالغ فيها وتخدم هدفًا دعائيًا، لإظهار "نجاح" سياسة الاحتلال.
ومع ذلك، فإن تزايد الانخراط في "البجروت" يعكس حجم الضغوط التي تمارسها إسرائيل على العائلات المقدسية، مستغلة الأوضاع الاقتصادية الصعبة والتراجع في الدعم العربي والدولي.
التعليم كسلاح للهيمنة والسيطرة
يرى رئيس مؤسسة فيصل الحسيني، عبد القادر الحسيني، أن الاحتلال يسعى لإلغاء المنهاج الفلسطيني كليًا بحلول عام 2028، وفرض منهاج مختلف عن التعليم الإسرائيلي لليهود أو لعرب الداخل المحتل، بما يضع الطالب المقدسي في موقع هامشي بعيدًا عن دوائر التأثير وصنع القرار.
ويؤكد أن الاحتلال يستخدم التعليم أداة استراتيجية للسيطرة على المقدسيين، خاصة العاملين في قطاعي الصحة والتعليم، اللذين يشكّلان حاجة ملحة لليهود في القدس.
ورغم تراجع الدعم الدولي للتعليم المقدسي، إلا أن المبادرات المحلية ما زالت تحاول الصمود ومواجهة هذه السياسات.
واخيرا فإن ما يجري في القدس المحتلة ليس مجرد صراع على المناهج الدراسية، بل هو معركة وجود وهوية.
فالتعليم بات سلاحًا بيد الاحتلال لفرض روايته وطمس الوعي الوطني الفلسطيني، بينما يواجه المقدسيون هذه التحديات بإمكانات محدودة وإصرار على الحفاظ على جذورهم الثقافية والتاريخية.
ومع اقتراب عام 2028، تتضح ملامح مخطط ممنهج لإلغاء التعليم الفلسطيني تمامًا، ما يستدعي دعمًا عربيًا ودوليًا عاجلًا يحصّن القدس وأجيالها القادمة من الوقوع في شرك التهويد الممنهج.