يشهد القطاع الصحي في مصر حالة من التدهور الشديد لعدة أسباب أهمها العجز في القوى البشرية والكوادر الطبية من الأطباء وأطقم التمريض، وهو ما يدق ناقوس الخطر حول مستقبل الخدمات الصحية المقدمة للمصريين وأيضا حول مستقبل مهنة الطب في مصر بشكل عام.


وما فاقم المشكلة في الفترة الأخيرة، هو زيادة هجرة الأطباء فوفقا لآخر إحصائية لعام 2021، فإن نحو 60% من الأطباء المصريين تركوا المستشفيات المصرية للعمل في الخليج والدول الأوربية، و5% يمنهم عملون في باقي الدول بينما 50% ممن بقوا في مصر يعملون بالقطاع الخاص،وهو ما يشكل أزمة حقيقة خاصة وأن كليات الطب لا تخرج العدد الكافي لتلبية احتياجات سوق العمل.


مشاكل متراكمة


تنتقل الأوضاع الصحية في مصر من تدهور لتدهور أكبر منه، فلا إمكانات حقيقية، ولا فرص تدريب، فضلاً عن تدني الرواتب، وارتفاع تكاليف الحياة، إضافة إلى أن عدد ساعات العمل الأسبوعية تزيد على 96 ساعة (نحو 14 ساعة يومياً)، ما يجعل قرار ترك المستشفيات الحكومية بعد أخذ فترات تدريبية هو القرار الأول لمعظم أطباء مصر، لا سيما أنه يوجد فرص في أماكن عدة حول العالم، والفرص كثيرة، والعمل في الخارج أكثر دخلا وأقل في ساعات العمل.


وكشفت نقابة أطباء مصر عن وجود زيادة مطردة في معدلات استقالة الأطباء من القطاع الحكومي وهجرة الآلاف للخارج، لأسباب ودوافع مختلفة، تصب جميعها في "تردي حالة القطاع الصحي بالبلاد".


ورصدت النقابة أكثر من 11500 استقالة لأطباء خلال السنوات الثلاث الأخيرة، ما يضاعف حجم التحديات التي تواجه قطاع الصحة الذي يعاني بالأساس نقصاً في الكوادر الطبية (معدل الأطباء في مصر 8.6 طبيب لكل 10 آلاف مواطن، أي أقل من طبيب لكل 500 مواطن، بينما المعدل العالمي 23 طبيباً لكل 10 آلاف مواطن).


التعدي على الكوادر الطبية


بلغت الفترة الأخيرة اعتداءات كانت حلقة من سلسلة متكررة تجاه الأطباء المصريين، وسط مطالبات مستمرة من نقابة الأطباء بحماية كوادرها أثناء أداء عملهم بالمستشفيات، الأمر الذي دعا النقابة لمطالبة الجهات المختصة بتغليظ عقوبات الاعتداء على المنشآت الطبية أو العاملين فيها.


ورصدت نقابة الأطباء العديد من حالات التعدي على الأطقم الطبية في السويس والإسماعيلية، والدقهلية وحلوان، معربة أن مثل هذه الجرائم تتسبب في نقص أعداد الأطباء بعد عزوفهم عن العمل، كما أن هذا الأمر يتسبب أيضا في تحطيم أجهزة ومنشآت طبية.


الوفاة أثناء العمل


ولم تقتصر أزمات الأطباء المصريين، على التعرض للاعتداء من أهالي المرضى بسبب غياب الإمكانيات فحسب، بل وصلت إلى وفاة عدد منهم بسبب الإجهاد وساعات العمل الطويلة، حيث كشفت نقابة الأطباء المصريين، عن وفاة 18 طبيبا خلال العام الجاري أثناء العمل، بمعدل طبيبين كل شهر.


وأرجعت نقابة الأطباء زيادة عدد وفيات الأطباء أثناء العمل إلى العمل لساعات متواصلة تصل إلى أيام، من أهمها ضغوط العمل وعجز الأطباء في بعض الجهات مثل المستشفيات الجامعية، والمبالغ المتدنية للرواتب ومقابل النوبتجيات ما يضطر معها الطبيب للعمل في أكثر من جهة لمواجهة أعباء الحياة، ما يعود بالضرر البالغ على الطبيب والمريض على حد سواء.


وأصدرت نقابة الأطباء بيانا استعرضت فيه حسب بيان، أعداد وفيات شباب الأطباء من خارج إصابات كورونا ما استطاعت نقابة الأطباء حصرها، حيث كان معدل الوفاة 2 طبيب كل شهر في عام 2022، مقابل 3 وفيات في عام 2018، و11 وفاة في عام 2019، و7 وفيات عام 2020، و10 وفيات عام 2021.

وفي هذا الشأن حذر عضو مجلس النقابة، إيهاب الطاهر، من استمرار سقوط شباب الأطباء بهذا الشكل موضحا أن تكرار حوادث الوفيات المفاجئة للشباب الأطباء يحتاج دراسة علمية.


وأكد الطاهر أنه لا يمكن إغفال التكليف بالعمل لساعات طويلة قد تستمر لأيام متواصلة في بعض المستشفيات الجامعية، بالإضافة للضغط العصبي والنفسي جراء مزاولة المهنة الخطيرة.


بينما قالت وكيلة نقابة الأطباء السابقة، منى مينا، إن ظاهرة الوفاة المفاجئة للشباب الأطباء بعد عمل متواصل، أصبحت ظاهرة متكررة بشكل لا يمكن تجاهله، خاصة في المستشفيات الجامعية التي يستمر العمل بها لأيام متواصلة.


وطالبت مينا بتحديد عدد ساعات العمل المتصل للمناوبين في المستشفيات الجامعية، مستنكرة أن تستمر وفيات الشباب الأطباء بهذا الشكل بدون أي رد فعل.


إلغاء التكليف


وعلى الرغم من تلك المشكلات المتراكمة أثارت حكومة الانقلاب حالة من الجدل والغضب بين الأطباء بعد قرار وزارة الصحة بإلغاء تكليف خريجي الكليات الطبية في ظل العجز الصارخ الذي تعاني منه المستشفيات الحكومية، حيث فوجئ أعضاء نقابة الأطباء بطرح قرار إلغاء التكليف أثناء اجتماع اللجنة العليا للتكليف الذي  حضره وزير صحة الانقلاب ومسئولي النقابات المهنية الطبية ومديري المديريات.


ورفض العديد من أعضاء نقابة الأطباء قرار التكليف قائلين "إن معايير وضوابط تكليف خريجي كليات العلاج الطبيعي والأطباء البشريين والصيادلة وأطباء الأسنان والتمريض، التي وضعتها الصحة والتي ستطبق وفقا للاحتياجات المطلوبة بدءا من دفعة 2025، سوف تتسبب في أزمات بالقطاع الطبي وبين طلاب الكليات الطبية" .


عجز مزمن


قال الدكتور محمد فريد عضو مجلس اتحاد نقابات المهن الطبية، أمين عام نقابة الأطباء البشريين، إنه "من المعروف للجميع أن هناك عجزا مزمنا بأعداد الأطباء على مستوى الجمهورية، وسيظل العجز مستمرا لفترات طويلة مقبلة “.


وأوضح فريد في تصريحات صحفية أنه رغم تخرج أعداد كبيرة من كليات الطب إلا أن هناك نسبة كبيرة منهم تسافر للعمل بالخارج، وأخرين يتركون العمل تماما، بينما الوضع الحالي أن أعداد أطباء الأسنان والصيادلة أكثر من المطلوب.


وأشار إلى أن صياغة قرار وزارة صحة الانقلاب تنص على أن كل أعضاء المهن الطبية سيطبق عليهم القرار بدءا من عام 2025 طبقا للاحتياجات، مؤكدا أن ذلك سيصعب تطبيقه على الأطباء البشريين لأن الاحتياجات من الأطباء أكثر من الأعداد الموجودة.


تدني الأجور


ويعاني الأطباء في مصر من تدني الأجور مقارنة بفئات أخرى فى المجتمع وهو ما لا يحدث فى بلاد العالم الأخرى، حيث لفتت نقابة الأطباء إلى أن قرابة 150 ألف طبيب مصري هاجروا إلى خارج البلاد، لأن راتب لاعب الكرة في مصر يساوي 300 ضعف راتب أي طبيب.


ومن جانبها  قالت الطبيبة والناشطة منى مينا، في مقال لها بعنوان "لماذا يهاجر الأطباء"، إن بعض طلبة كلية الطب يبدأ دراسة المعادلات الأجنبية التي تُمكِّنه من العمل في الخارج منذ السنة الثالثة أو الرابعة في الكلية، حتى يستطيع السفر فور تخرجه.


وأشارت إلى ظروف عمل الأطقم الطبية في مصر، لا سيما في المستشفيات الحكومية، من أجور شديدة التدني وقلة في أعداد الأطباء وكثرة في أعداد المرضى، فضلا عن الإمكانات الضعيفة، والصعوبة في تقديم خدمة طبية مرضية، وتحمل الأطباء غضب المرضى وأهاليهم نتيجة عدم الرضا بالخدمة المقدمة، وضعف إجراءات مكافحة العدوى، وقد تسبّب ذلك -مثلا- في أعداد رهيبة من وفيات الأطباء المتصدّين لجائحة كورونا.