15/12/2009

 أ. د. رشاد محمد البيومي

كان أحد الإخوة الكرام (رحمه الله، وهو صاحب التجربة الكبيرة والمعرفة العميقة والنظرة الثاقبة الواعية) يردد مقولته إن الابتلاء بالشدة يشبه (قمينة الطوب)؛ حيث يتم رص الطوب اللبن في القمينة، ثم يتم حرقه بالنار حتى ينضج.. فماذا تكون النتيجة؟ ثلاثة أصناف من الطوب.. الأولى طوبة جيدة متماسكة متميزة المواصفات، تصلح للاستعمال طويل المدى.. لبنة في أي بناء أيًّا كان نوعه.. أما الثانية فهي طوبة هشة، سرعان ما تتفتت وتتكسر، ولا تصلح في شيء إلا في رصف الطرقات.. أما الثالثة فهي طوبة انصهرت وتشوهت واسودت، وتغيَّر شكلها فهي لا تصلح لأي استعمال.
 
وهكذا النفس البشرية؛ فإنها تتعامل مع البلاء فتتباين إلى أنواع وأصناف مختلفة تأثرًا بالشدة، وتعاملاً مع آثارها.. فمنهم من يثبت على الحق ويصبر على البلاء محافظًا على معتقده وفكره.. ومنهم من يتفلت مؤثرًا السلامة والبعد عن مواطن الابتلاء.. ولو تنكر لما يعتقد.
 
أما الصنف الثالث فقد ينقلب على عقبيه، ولكي يداري موقفه فقد يلجأ إلى إثارة المشاكل والمنغصات والأزمات، وذلك تغطية لما يعتمل في نفوسهم وما تنصح به دواخلهم.. وهذه هي طبيعة الحياة، كما يذكرنا كتاب الله.. ﴿الم(1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ(2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)﴾ (العنكبوت).

وأما الذي صدق مع الله واجتاز الامتحان.. فذلك الذي أنعم الله عليه بنعمة الثبات.. هو الذي صدق فيه قول الله تعالى: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً(23)﴾ (الأحزاب).
 
ولا يحسبن أحد أن الثبات هو وليد العلم والمعرفة المجردة، أو مرتبط بقدم الانتماء أو بالمكانة أو الزعامة.. ولكن كما تعلمت من التجربة؛ فإن الثبات يرتبط بمدى الصدق، والثقة بالله، والاطمئنان إلى سلامة الطريق، والالتزام بالسير على خطى الحق دون تردد أو شك.. هنا تتنزل رحمة الله تصديقًا بقوله: ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)﴾ (ابراهيم).
 
فهي خصيصة من خصائص المولى عزَّ وجلَّ يتفضل بها على من صدق وصدقه.. وما أروع قوله تعالى: ﴿وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً(74)﴾ (الإسراء)، وهكذا يكون الثابت على العهد دائمًا مطمئن النفس، ثابت الخطى، موصولاً بالله.
 
وقد يكون البلاء بالنعمة كما يكون بالنعمة والشدة ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً﴾ (الأنبياء: من الآية 35)، بل قد يكون البلاء بالنعمة أشد وطأةً وأثرًا على صاحبه.. فهو دائمًا أبدًا خائف على ماله ووظيفته ومركزه الذي شاءت الأقدار أن تمنحه إياه.. فهنا تدفعه النفس الأمَّارة بالسوء؛ لأن يتنكب الطريق وتتسم أعماله وأقواله بما يتناقض تمامًا عما كان ينادي أو يتشدق به.
 
أخي الحبيب.. أذكرك ومذكرًا نفسي أن طريق العمل لدعوة الله طريقٌ شاقٌّ قد تكتنفه العقبات والصعاب.. لذا فإنه يحتاج إلى نفوس عالية زكية أبية.. وقلوب مرتبطة بالله نحَّت جانبًا حظ النفس، ووهبت واحتسبت جهدها له وحده، وعاهدته على الصدق معه والسير على نهجه.
 
وأن الثبات يتطلب الرضا والقناعة بقضاء الله وقدره والإصرار على مواصلة العمل له، دونما نظر إلى منصب أو منفعة أو مقام عالٍ)، مهما فعل المبطلون وكاد المرجفون.. مع الإيمان بأن العاقبة للمتقين..
 
واعلم أخي أن النصر مع الصبر.. وأن الفرج مع الكرب.. وأن مع العسر يسرًا.. وثقوا في قوله ربكم.. ﴿وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ(139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ(140)﴾ (آل عمران).

_______________

 عضو مكتب الإرشاد.