بقلم: محمود عبد الرحمن
حينما أتحدث عن هذين الخليفتين فأنا أتحدث عن النموذج البشرى الأمثل، فى السلوك الشخصى وفى نظام الحكم، وأعمالهما لنا هداية واسترشاد.
والكتابة فى سيرتهما لا تنتهى ولا يشملها مقال محدود.
لكنى سأتوقف عند موقفين لهما دلالات كبيرة فى عالم السياسة:
أما الموقف الأول: فكان فى ظرف سياسى بالغ الحرج: تُوُفِّى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وارتدت قبائل العرب عدا مكة والمدينة والطائف، ونجم النفاق فى المدينة واشرأبت اليهود والنصارى، وأصبح المسلمون – كما وصفت السيدة عائشة – كالشاة فى الليلة المطيرة ليس لها راع.
وقد كانت مشاكل الردة وظهور مدعى النبوة، وامتناع طوائف عن دفع الزكاة هى المشاكل الأولى التى واجهت الخليفة الصديق رضى الله عنه.
وكان المرتدون على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: عاد إلى عبادة الأوثـان.
القسم الثاني: اتبع أدعياء النبوة.
القسم الثالث: استمر على الإِسلام ولكنهم جحدوا الزكاة وتَأَوَّلُوها بأنها خاصة بزمن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد أرسل الفريق الثالث وفداً إلى المدينة لمفاوضة خليفة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وقد نزل على وجهاء الناس في المدينة، فكانوا يعرضون قبول الإسلام ورفض الزكاة.
رفض أبو بكر ذلك ، وقال قولته المشهورة: "واللّه لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول اللّه صلى الله عليه و سلم لجاهدتهم عليه".
وقال عمر لأبي بكر - رضي اللّه عنهما: (كيف تقاتلهم وقد قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم :"أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا اللّه، فمن قال"لا إله إلا اللّه" فقد عصم مني نفسه وماله إلا بحقه وحسابه على اللّه")؟.
قال أبو بكر: "واللّه لأقاتلن من فَرَّق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال. واللّه لو منعوني عناقا – وفى رواية عقال بعير - لقاتلتهم على منعهم".
وقال عمر- رضي اللّه عنه: "يا خليفة رسول اللّه، تَأَلَّفْ الناس وارفق بهم " فأجابه أبو بكر: "رجوت نصرتـك وجئتني بخـذلانـك؟ أَجبَّـارٌ في الجـاهلية وخَوَّارٌ في الإسلام؟ إنه قد انقطع الوحي وتم الدين.. أَوَ ينقُصُ وأنا حي؟ أليس قد قاَل رسول اللّه صلى الله عليه و سلم: "إلا بحقها، ومن حقها الصلاة وإيتاء الزكاة واللّه لو خذلني الناس كلهم لجاهدتهم! بنفسي. ".
وهنا نتوقف وقفات هامة:
1- لقد اختلف الإمامان فى فهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هل تطبيقه يعنى قتال مانعى الزكاة أم لا؟
2- وحتى بعد أن تبين أن فهم سيدنا أبى بكر هو الصحيح فقد كان لسيدنا عمر اجتهاد آخر، وهو (يا خليفة رسول اللّه تألف الناس وارفق بهم)، وهناك روايات أن سيدنا عمر كان يرى الانتظار حتى يقوى المسلمون، فالحال في المدينة كانت صعبة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا اختلاف حول كيفية تطبيق الحديث، أى التوقيت والإعداد للحرب...الخ.
3- يعنى الاختلاف كان حول قضايا كبرى خطيرة ومصيرية، تخص الحرب والاستعداد لها، إنه قرار بمواجهة معظم قبائل العرب فى حربٍ، تقول الحسابات المادية فيها أنها غير ممكنة.
4- عارض كثير من الصحابة سيدنا أبا بكر ومنهم عمر، يعنى المعارضة فى الإسلام مشروعة.
5- استجاب الناس للصِّديِّق وحاربوا المرتدين لسببين: أولهما: أنه بيَّن لهم أن مرجعه فى هذا الموقف هو نص الحديث وليس رأيا شخصيا، والشورى لا تكون فى أمر قطعى أثبته القرآن أو أثبتته السنة. ثانيهما: أنه خليفة وإمام له عليهم حق الطاعة.
6- ومع اختلاف سيدنا عمر، وله مكانة خاصة: هل تخاصم مع أبى بكر؟ هل أساء معه الأدب؟ هل رفع عليه صوته؟ هل هيج الناس ضده بدعوى المصلحة؟ لا والله بل تابع وسمع وأطاع، واأتلف أمر المسلمين وحاربوا وانتصروا... إننا بحاجة لأن نتعلم آداب الشورى وقواعدها، لأن بعض العاملين فى الحركة الإسلامية يتجاوزون ذلك بدعوى مصلحة الإسلام والمسلمين.
ونحن لا ندعو إلى الاتباع الأعمى بغير بصيرة لكن معرفة القواعد تقوى الصفوف وتحافظ على الوحدة وتقى من التنازع والفشل قال تعالى: (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين) .
وأما الموقف الثانى:
فقد كان سيدنا عمر ينتقد أداء خالد بن الوليد القائد العام للجيوش، وينصح أبا بكر بعزله، وفى أحد المواقف – مقتل مالك بن نويرة – استدعى الخليفة خالدا وسمع حجته ومبرراته، ثم قال لعمر: أمسك لسانك عن خالد يا عمر فوالله ما كنت لِأَشِيم سيفًا سَلَّهُ الله على الكافرين.
ومع هذا لا مخاصمة ولا مشاحنة بين العملاقين أبى بكر وعمر، بل يظل عمر وزيرا ومستشارا وناصحا وداعما للصِّدِّيق.
ومن عجب أن سيدنا عمر بعد أن تولى الخلافة كان أول قرار له هو عزل خالد بن الوليد من قيادة الجيش لأنه رأى أن الناس افتُتِنوا بخالد وظنوا أن النصر من عنده فخاف على عقيدتهم - مع تحفظاته السابقة على سيدنا خالد أيضا.
وهنا يعلمنا الفاروق قاعدة هامة فى اتخاذ القرارات:
أن مسئولية القائد هى المشاورة ثم اتخاذ القرار.
لكن مسئولية باقى الأفراد هى النصيحة وبيان الحجة ، والمعارضة واستفراغ الجهد فى الانتصار للرأي، لكن فى النهاية ليس كل فرد له حق اتخاذ القرار بديلا عن الخليفة أو القائد.
بشرط أن يكون الحاكم قد تولى الحكم ببيعة صحيحة، وأن يكون ملتزما بقواعد الشريعة ونصوص القرآن والسنة.
وطبعا الاجتهادات الحديثة فى صناعة الدساتير لتبين حدود سلطات الرئيس وقواعد عمل مجالس الشورى والمجالس النيابية، هى اجتهادات صحيحة لأنها تعتمد على إقرار الشعوب لهذه القواعد.
والشعوب هى صاحبة الحق الأصيل أما الحاكم فهو وكيل، وأعضاء الشورى هم أهل الحل والعقد وهم نواب الأمة.
وحتى لا يستبد الحاكم من ناحية، وحتى لا يمنع من ممارسة سلطاته من ناحية أخرى، كان الاجتهاد فى النص فى الدستور على حدود سلطات الرئيس وسلطات النواب، فهذه تطبيقات حديثة للقواعد الإسلامية تقبلها مبادئ الشريعة الغراء