في خطوة تُنمّ عن وعي سياسي عميق وقراءة دقيقة للمشهد الإقليمي المعقد، تقود حركة حماس نقاشًا داخليًا شجاعًا حول مستقبلها السياسي، لا يستهدف "الهروب" كما يروج الخصوم، بل يسعى لتدشين مرحلة جديدة من العمل الوطني الفلسطيني.
هذه المرحلة تعطي الأولوية لحماية الشعب الفلسطيني في غزة، وتضع "الوحدة الوطنية" فوق "الحزبية الضيقة"، في تحول استراتيجي قد يعيد رسم خارطة الطريق نحو الدولة الفلسطينية المستقلة التي طال انتظارها.
نضج سياسي في مواجهة الإبادة
المصادر التي تحدثت لصحيفة "الشرق الأوسط" لم تكشف عن "تنازل" من الحركة، بل عن "مبادرة" وطنية مسؤولة. فدعوة قيادات حماس لإنشاء حزب سياسي يمثل نهجًا إسلاميًا وطنيًا لا تعني التخلي عن الثوابت، بل تعكس حرصًا شديدًا على حماية هذه الثوابت من خلال التكيف الذكي مع العواصف الإقليمية والدولية التي تحاول اقتلاع القضية الفلسطينية من جذورها.
إن طرح الحركة لفكرة الانضمام إلى منظمة التحرير الفلسطينية والعمل على إعادة هيكلتها عبر "اتفاق وطني جامع"، يثبت أن حماس تدرك أن "قوة الفلسطينيين في وحدتهم". فهي ترفض أن تكون "دويلة" معزولة في غزة، وتسعى لأن تكون جزءًا أصيلاً من "الدولة" الفلسطينية الكبرى، مقدمة بذلك نموذجًا في إيثار المصلحة الوطنية العليا على مكاسب السلطة المنفردة.
"تحول الضرورة": حماية الشعب قبل حماية السلاح
النقاش حول تحول حماس إلى حزب سياسي لا يمكن فصله عن السياق الإنساني الكارثي في قطاع غزة. الحركة، التي خاضت معارك شرسة دفاعًا عن شعبها، تدرك اليوم أن "الصمود" لا يعني فقط القتال، بل يعني أيضًا تأمين حياة كريمة للناس وإعادة إعمار ما دمرته الحرب. ومن هنا، يأتي هذا التحول كمحاولة لكسر الحصار الدولي المفروض على القطاع، وسحب الذرائع الإسرائيلية والأمريكية التي تستخدم "سلاح المقاومة" شماعة لتدمير غزة وتهجير أهلها.
أحد قيادات الحركة أوضح بذكاء أن المقترح "يرتبط بضرورة مجاراة التحول السياسي في الإقليم بما يخدم منع القضاء على حماس كحركة نضالية". هذا التصريح ليس اعترافًا بالضعف، بل هو قمة "الواقعية السياسية" التي تهدف إلى الحفاظ على "الفكرة" و"القضية" في وجه آلة عسكرية لا ترحم، وضمان استمرار المشروع الوطني بأدوات جديدة تتناسب مع المرحلة.
نحو شراكة وطنية لا تقصي أحدًا
خلافًا للرواية التي تحاول تصوير الأمر كرضوخ للضغوط، فإن ما تطرحه حماس هو "خارطة طريق" للإنقاذ الوطني. فبدلاً من التمسك بالسلطة المنفردة في غزة، تبدي الحركة استعدادًا للانخراط في "شراكة سياسية كاملة" داخل منظمة التحرير.
هذه الخطوة تقطع الطريق على المخططات الإسرائيلية والأمريكية التي تسعى لفرض "إدارة عميلة" على القطاع، وتضع القرار الفلسطيني -لأول مرة منذ سنوات- في يد "قيادة موحدة" قادرة على التفاوض مع العالم من موقف قوة.
حماس هنا لا تتخلى عن سلاحها مجانًا، بل تحاول تحويل "قوتها العسكرية" إلى "رصيد سياسي" يخدم الكل الفلسطيني، ويضمن أن أي تسوية قادمة لن تكون على حساب حقوق اللاجئين أو القدس، بل ستكون خطوة حقيقية نحو الدولة.
استشراف المستقبل: حماس كصانع للسلام العادل
إن المراجعة التي تجريها حماس اليوم تضعها في مصاف حركات التحرر العالمية التي نجحت في الانتقال من "الثورة" إلى "الدولة" عندما حانت اللحظة التاريخية المناسبة. فبقبولها التحول لحزب سياسي، تفتح حماس الباب أمام المجتمع الدولي ليعيد حساباته، وتجبر العواصم الكبرى على التعامل معها كـ"شريك لا يمكن تجاوزه" في أي ترتيبات مستقبلية، وليس كـ"فصيل إرهابي" كما تريد إسرائيل.
هذا التحول، إن تم، سيكون الانتصار الحقيقي لغزة، حيث ستتحول التضحيات والدماء إلى "أوراق ضغط سياسية" تُصرف في بنك الحقوق الوطنية، لا في صراعات عبثية. حماس اليوم لا تتغير لتنتهي، بل تتجدد لتبقى، ولتضمن أن تضحيات شعبها لم تذهب سدى، بل عبدت الطريق نحو "فلسطين الموحدة".

