سامح راشد
باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط
بدأت أمس (24/11/ 2025) المرحلة الثانية من الانتخابات البرلمانية المصرية في 13 محافظة، تضمّ 73 دائرة انتخابية، بعد أن قرّرت الهيئة العليا للانتخابات إلغاء نتائج 19 دائرة في المرحلة الأولى التي ضمّت 81 دائرة انتخابية، بسبب انتهاكات جسيمة أخلّت بصدقية العملية الانتخابية، وضربت نزاهتها في مقتل، إذ تجاوزت المخالفات التي شابت تلك الدوائر الحدود التقليدية المتعارف عليها في مصر، وأبرزها استخدام المال السياسي (الرُّشا الانتخابية). فوصل الأمر إلى أخطاء كارثية في حساب الأصوات، بتجاوز مجموع الأصوات التي حصل عليها المرشَّحون في بعض الدوائر إجمالي عدد الناخبين!
وفضلًا عن أن تلك المخالفة تكشف خللًا مركّبًا من السطحية والقصور الفكري في إدارة العملية الانتخابية، فإنها تشير بوضوح إلى عجز المؤسّسات والأجهزة والأفراد الذين دبّروا تلك المخالفات عن إدراك طبيعة المشهد، واختلاف المجال العام في مصر حاليًا عمّا كان في عقود مضت. فقد انتهت صلاحية "الاستغباء" الذي تمارسه السلطة بمصر وغيرها من دول العالم المتخلف بحقّ شعوبها. على أن انتهاء فعالية الإدراك القاصر من السلطة للشعب لم يكن بسبب تنامي الوعي السياسي أو نضج المجتمع وحرصه على حقوقه، وإنما السبب المباشر هو تداول وانتشار أدلّة قاطعة على الانتهاك والتلاعب الانتخابي، وذلك بفضل سهولة تسجيل وتصوير وتوثيق ما يجري، وإمكانية نشره على أوسع نطاق من دون الوقوع في براثن القوانين المقيّدة والقبضة الأمنية الغاشمة.
ثمّة تطوّر آخر له أثر واضح في انكشاف خطايا الانتخابات المصرية 2025، هو الثقل الاجتماعي لعدد غير قليل من المُرشَّحين الذين جاءت الانتهاكات الانتخابية على حسابهم، فخرجت النتائج لصالح آخرين. فمعظم هؤلاء الخاسرين بفعل فاعل كانوا مُرشَّحين في دوائر انتخابية في محافظات الصعيد (جنوب مصر)، وهي مناطق تحكمها أعراف راسخة وتقاليد اجتماعية متوارثة، ومن أولئك الخاسرين كثيرون ينتمون إلى عائلات كبيرة، وإلى عصبيات لها تاريخ متجذّر في العمل السياسي والبرلماني.
وليست عضوية البرلمان نتاجًا طبيعيًا وحسب لتلك المكانة المجتمعية لهؤلاء، وإنما صارت أيضًا مكوّنًا أصيلًا من مكوّنات تلك المكانة، لذلك كان مفهومًا ومُبرَّرًا غضب أولئك المُرشَّحين الخاسرين، خصوصًا مع وجود مخالفات موثّقة لا تقبل التشكيك، ولا يمكن تجاهلها أو غضّ الطرف عنها.
وبالرغم من الضجة التي أثارها الإعلام الموالي تصفيقًا وتهليلًا لقرار إلغاء الانتخابات في 19 دائرة انتخابية في المرحلة الأولى، لم تتطرّق وسيلة إعلامية واحدة إلى هُويَّة الشخص المسؤول أو طبيعة الجهة المسؤولة عن المخالفات، بل إن الهيئة الرسمية المختصة بتنظيم الانتخابات لم تُعلِن أي إجراءات اتُّخذت للمساءلة أو ستُتخذ للتحقيق في كيفية حدوث المخالفات الانتخابية، فحدوث مخالفات متشابهة ومتكرّرة تجبر السلطة على إلغاء نتائج 19 دائرة بالضرورة ليس حالة فردية، وإنما عملية منظّمة ومنسقة من طرف ما، أو بالتنسيق بين أطراف وأجهزة عدة.
وكما لم يبحث أحدٌ عن الجهة أو الأفراد المُدبِّرين للمخالفات الانتخابية، ثمّة تساؤل افتراضي حول مسار الانتخابات، لو لم يأتِ توجيه من أعلى رأس في السلطة بإلغاء الانتخابات. الإجابة ببساطة أن الجهات الرسمية والإعلام الموالي والنُّخب المؤيّدة كانوا جميعًا سيصفّقون ويهلّلون للعُرس الديمقراطي ويتغنّون به.
وهكذا تؤكّد تجربة المرحلة الأولى من الانتخابات البرلمانية في مصر ما ورد في هذه الزاوية (الأسبوع الماضي) حول "استنساخ" الأخطاء التقليدية المزمنة، وتكرار الخطايا الانتخابية المستمرّة منذ عقود.
أما وقد انكشفت المخالفات وانفضح أصحابها، فليس أقلّ من أن تعيد السلطة حساباتها، ولو من دون احترام الشعب ومنحه حرية الاختيار (هذا مستبعد)، وإنما على الأقلّ بإجادة التلاعب و"حبك" المجريات الانتخابية ولو شكليًا، حتى إن كانت مستنسخة على النمط القديم.

