مصطفى عبد السلام
رئيس قسم الاقتصاد في موقع وصحيفة "العربي الجديد"
لا أعرف ما الذي يدور في ذهن صانع القرار في مصر بشأن ملف الدين الخارجي والذي تفاقم بدرجات خطيرة خلال السنوات الأخيرة، فالتناقض الصارخ هو أهم ما يميز هذا الملف بالغ الحساسية، وما تعلنه الحكومات المتعاقبة من خطط بشأن الحد من الدين الخارجي وأعبائه الضخمة والتي تصل إلى نحو 30 مليار دولار في السنة، وربما أكثر.
والحديث عن خفض الدين إلى مستويات آمنة، تنسفه كليًا السياسات الرسمية والممارسات العملية من قبل الدولة حيث التوسع القياسي في الاقتراض من الشرق والغرب ومن الدول والمؤسسات وأسواق المال، يصاحب ذلك ضرب الحكومات عرض الحائط بكل التحذيرات المتتالية من انفجار هذا الملف في أي لحظة وتأثيراته الكارثية على الاقتصاد والمواطن والأمن الاقتصادي والقومي للدولة المصرية.
مثلا، في الوقت الذي تخرج فيه علينا حكومة مصطفى مدبولي قبل أيام معلنة أنها تستهدف خفض دين مصر الخارجي لمصر بقيمة ملياري دولار سنويا، مع وضع سقف للاستدانة واستخدام القروض الميسرة واستبدال الديون قصيرة الأجل، نجد أن هذا الدين ارتفع بنحو ستة مليارات دولار منذ بداية العام 2025، ليصل إلى 161.2 مليار دولار في نهاية الربع الثاني، وفق أرقام وزارة التخطيط.
تكشف بيانات حديثة للبنك الدولي أن مصر ستقوم بسداد أعباء ديون خارجية بقيمة 20.3 مليار دولار خلال النصف الثاني من العام الحالي، منها 4.6 مليار دولار ودائع معظمها مستحق لصالح دول خليجية. وفي بداية 2025 كشف البنك الدولي عن أنه يتعين على مصر سداد 43.2 مليار دولار التزامات خارجية خلال أول 9 أشهر من العام الحالي، بينها 5.9 مليار دولار فوائد، و37.3 مليار دولار أصل قروض.
وقبل أيام خرج علينا البنك المركزي المصري ليرفع في أحدث بيانات تقديراته لخدمة الدين الخارجي خلال العام المقبل 2026 بنحو 1.3 مليار دولار ليصل الرقم إلى نحو 29.18 مليار دولار مقابل 27.87 مليار دولار سابقا. كما تكشف بيانات البنك أن قيمة الأقساط المستحقة ارتفعت بنحو 1.1 مليار دولار وسجلت 23.79 مليار دولار. وهذه هي المرة الثالثة التي يرفع فيها البنك تقديرات خدمة الدين الخارجي للسنة المقبلة، ليصل إجمالي الزيادة في التقديرات لنحو 4.5 مليارات دولار.
وفي الوقت الذي يخرج فيه علينا مدبولي أيضا قائلا إن حكومته تستهدف النزول بمعدلات الدَّين إلى أقل رقم شهدته مصر على مدار تاريخها خلال السنوات الخمس المقبلة، يوافق مجلس النواب المصري على قرض جديد من الاتحاد الأوروبي بقيمة أربعة مليارات يورو (4.6 مليارات دولار)، تحت بند "دعم الاستقرار المالي وتعزيز احتياطي النقد الأجنبي وتخفيف الضغوط على الموازنة العامة للدولة". وبعدها مباشرة يخرج علينا رئيس لجنة الخطة والموازنة بمجلس النواب، فخري الفقي، قائلا إن المجلس وافق على قرض الاتحاد الأوروبي ضمن حزمة قروض وتمويل بقيمة 7.4 مليارات يورو (8.5 مليارات دولار).
لا يتوقف الأمر عند هذا الحد، فالحكومة تعتزم توقيع اتفاق قرض جديد مع البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية (EBRD) الشهر الجاري، بقيمة 220 مليون يورو لتمويل إنشاء محطة محولات كهرباء.
وفي الوقت الذي يعلن فيه البنك المركزي المصري تجاوز حجم الاحتياطي الأجنبي 50 مليار دولار لأول مرة، نجده في الأسبوع نفسه يقترض من البنوك المحلية ما يزيد عن 2.17 مليار دولار من العملات الأجنبية في أقل من أسبوع لسداد ديون وذلك عبر طرح أذون خزانة منها أذون دولارية بقيمة 1.547 مليار بعائد 3.749% ولمدة عام، وأذون باليورو بقيمة 627.8 مليون ولمدة عام أيضا وبعائد 2.25%.
وفي الوقت الذي تعلن فيه الحكومة إبرام صفقة عقارية ضخمة مع شركة الديار القطرية بقيمة تقارب 30 مليار دولار، منها 3.5 مليارات دولار هي قيمة الأرض وسيتم سدادها قبل نهاية ديسمبر الجاري، ويخرج علينا مدبولي قائلا إن أغلب العائدات النقدية من الصفقة الأخيرة ستُوجَّه لتخفيض الدين العام وتعزيز احتياطيات النقد الأجنبي، يخرج علينا محمد معيط، عضو مجلس المديرين التنفيذيين وممثل المجموعة العربية بصندوق النقد الدولي، قائلا إن مصر تترقب الحصول على قروض بقيمة 2.4 مليار دولار من الصندوق بعد إتمام المراجعتين الخامسة والسادسة من قبل البعثة الفنية التي من المقرر أن تزور مصر خلال أيام.
أحدث الأرقام الرسمية تقول إن ديون مصر الخارجية قفزت إلى 162.2 مليار دولار في نهاية يونيو الماضي مقابل 38.3 مليار دولار في مارس 2013، ولا نعرف كم وصل الرقم حاليًا، وخلال السنوات العشر الماضية أبرمت مصر عدة اتفاقات مع صندوق النقد الدولي، جعلتها ثاني أكبر المقترضين من الصندوق بعد الأرجنتين. فهل تترجم الحكومة أقوالها بشأن الحد من الديون الخارجية إلى أفعال، أم تمارس سياسة "دوخيني يا لمونة"، والتي تعني الجري المستمر بلا فائدة، والدوران في حلقة مفرغة دون تحقيق أي نتيجة مفيدة وملموسة.

