تتواصل أزمة الصحفيين المؤقتين في المؤسسات القومية لتكشف عن واحد من أكثر ملفات الإعلام المصري تعقيدًا تحت حكم السيسي، حيث تتسع الهوة بين الخطاب الرسمي عن "الإصلاح الإعلامي" وبين واقع يعاني فيه مئات العاملين من التهميش وغياب الحقوق الأساسية. وفي الوقت الذي تُنفق فيه الدولة ملايين الجنيهات على إعلاميين مقربين من السلطة، يقف الصحفيون الذين يشكلون العمود الفقري للمحتوى اليومي في مواجهة مستقبل وظيفي مبهم وحياة معيشية خانقة.
أزمة عالقة منذ سنوات
خلال الأشهر الماضية، عاد ملف نحو 700 صحفي وإداري وفني يعملون بنظام "المؤقتين" إلى السطح، بعدما تصاعدت حملة تدوين واسعة للمطالبة بتفعيل قرارات التعيين الصادرة عام 2024. هؤلاء العاملون، ومنهم من تجاوز 10 أو 15 عامًا من الخدمة، ما زالوا بلا أي ضمانات وظيفية أو اجتماعية، رغم أن القانون يلزم المؤسسات بتسوية أوضاعهم خلال عامين كحد أقصى.
نقيب الصحفيين خالد البلشي أكد أن استمرار تجاهل التعيين يمثل مخالفة واضحة لنص القانون، مشيرًا إلى أن النقابة تعتبر الملف أولوية مهنية وإنسانية. لكن ورغم كثرة الاجتماعات والوعود الرسمية، لا شيء تغيّر فعليًا على الأرض، الأمر الذي جعل المؤقتين في مواجهة قلق دائم من الاستغناء المفاجئ أو استمرار الاستغلال.
ملايين تنفق على الولاء… والفُتات لصنّاع المحتوى
حجج الدولة بشأن "ضعف الموارد" تتناقض مع ما يجري داخل المؤسسات نفسها، حيث تشير شهادات متعددة إلى رواتب خيالية يتقاضاها إعلاميون محسوبون على النظام، بينما لا يتجاوز دخل بعض المؤقتين 500 أو 3000 جنيه شهريًا تصرف بعد تأخير طويل.
وتشير مصادر داخل المؤسسات القومية إلى أن الأموال الموجهة لبرامج الترويج السياسي وحدها كافية لتعيين مئات الصحفيين دفعة واحدة، لكن الأولويات تبدو محسومة لصالح تعزيز شبكات الولاء بدلا من دعم العمل المهني أو حماية حقوق العاملين.
شهادات من الداخل: وعود تتكرر والمأساة ثابتة
الصحفيون المؤقتون يؤكدون أن معاناتهم لم تعد مرتبطة فقط بتأخر الرواتب أو انعدام التأمينات، بل بغياب أي أفق للاستقرار. فمنذ اختبارات التقييم التي أجريت عام 2024، والتي كان يُفترض أن تمهد لتثبيتهم، لم تُنفذ خطوة واحدة باتجاه تطبيق هذا القرار. بعضهم يعمل منذ سنوات بلا تأمين صحي أو اجتماعي، بلا حق في المعاش، ومع خوف متكرر من فقدان الوظيفة في أي لحظة.
الصحفية إسراء فتحي، إحدى المتضررات، تقول إنها تعمل منذ عشر سنوات براتب لا يكفي الحد الأدنى من الاحتياجات اليومية، وإن وعود التثبيت المتكررة انتهت إلى "صمت كامل" من الجهات المسؤولة.
تحركات نقابية تواجه جدارًا من التجاهل
بدأت نقابة الصحفيين خطوات تصعيدية، بينها مخاطبات رسمية واجتماعات عاجلة مع رؤساء تحرير الصحف، إضافة إلى مطالبات بلقاء الهيئة الوطنية للصحافة. لكن ردة الفعل الرسمية بدت متعثرة ومحدودة، ما عزز شعور الصحفيين بأن المشكلة ليست إدارية فقط بل ترتبط بسياسة عامة تقوم على الإبقاء على العمالة في وضع هش ومربك لضمان السيطرة وتقليل المطالبات بالحقوق.
منظمات حقوقية اعتبرت ما يحدث "انتهاكًا واضحًا للحقوق الدستورية للعاملين"، وطالبت بمحاسبة المسؤولين عن تعطيل التعيينات رغم استيفاء الشروط القانونية والمهنية.
إعلام الدولة في عهد السيسي: ولاء مكافأ، ومهنية معاقبة
الملف يكشف عددا من الحقائق حول بنية الإعلام الرسمي في مصر، حيث تتحول الميزانيات العامة إلى أدوات لتعزيز النفوذ السياسي، بينما تُهمّش الكفاءات التي تصنع المحتوى الحقيقي. مراقبون يرون أن إبقاء الصحفيين المؤقتين في حالة هشاشة ليس مجرد تقصير إداري، بل جزء من نمط أوسع يهدف إلى التحكم في سوق العمل وترسيخ نموذج يعتمد على الولاء السياسي لا المهنية.
هذا النهج، بحسب خبراء، أدى إلى تقويض ما تبقى من استقلال الإعلام القومي وتحويله إلى منصة ترويج حكومي بدلا من كونه مؤسسة خدمة عامة.
وأخيرا أزمة تكشف جوهر الخلل
أزمة الصحفيين المؤقتين ليست مجرد خلاف وظيفي داخل مؤسسات الدولة، بل مرآة لسياسات أوسع اتسمت بالإهمال والتجاهل وغياب العدالة في توزيع الموارد. وبينما يستمر النظام في تمويل الإعلاميين المقربين بلا سقف، يبقى مئات الصحفيين الذين يديرون العمل اليومي عالقين في ظروف معيشية صعبة وعقد وظيفي غير مستقر.
إذا كان السيسي يتحدث عن "إصلاح إعلامي"، فالواقع يقول إن أول خطوة لهذا الإصلاح تبدأ بضمان حقوق العاملين، وليس بالمزيد من الإنفاق على الأصوات الموالية. وحتى يحدث ذلك، ستظل أزمة المؤقتين عنوانًا صريحًا لفشل السياسات الحالية في بناء إعلام حقيقي يخدم المجتمع لا السلطة.

