تشهد غزة منذ أيام تصاعداً خطيراً في المواجهات العائلية والاشتباكات المسلحة، التي اتخذت طابعاً يبدو للوهلة الأولى اجتماعياً محلياً، لكنه يخفي وراءه خيوطاً سياسية معقدة تمتد إلى خارج القطاع. فبينما تُروَّج هذه الأحداث كخلافات عشائرية عادية، تتكشف على الأرض معالم خطة محكمة تستهدف زعزعة استقرار حكم حركة حماس، وإغراقها في صراعات داخلية تمهيداً لفرض وصاية إقليمية ودولية على القطاع بذريعة “إعادة النظام”.

يشهد قطاع غزة مناخاً من الترقب المشوب بالقلق في أعقاب انسحاب الجيش الإسرائيلي من مناطق واسعة، والذي لم يفضِ إلى هدوء كامل، بل كشف عن توترات داخلية عميقة. فما أن غادرت القوات الإسرائيلية حتى اندلعت اشتباكات عنيفة في مناطق متفرقة يوم الأحد الماضي، كان أبرز أطرافها حركة حماس من جهة، ومجموعات مسلحة وعائلات نافذة، من بينها عائلة دغمش، من جهة أخرى.

 

الفوضى المصطنعة: من نزاعات محلية إلى اشتباكات موجهة

انطلقت شرارة الأحداث من مناوشات بين عائلات في أحياء وسط غزة، لكنها سرعان ما تحولت إلى معارك مسلحة واسعة النطاق، استُخدمت فيها أسلحة ثقيلة وطائرات مسيرة محلية الصنع. سقوط قتلى وجرحى من المدنيين، بينهم نساء وأطفال، أشعل الخوف بين السكان وأثار التساؤلات حول مصدر هذه الترسانة ومن المستفيد من استمرار الصدامات.

مصادر ميدانية في القطاع تشير إلى أن جهات خارجية تعمل على تغذية النزاعات عبر وسطاء محليين، وإغراق القطاع في “حروب صغيرة” تستنزف قدرات المقاومة بعد الحرب الطويلة مع إسرائيل، وتمنح خصومها ذريعة لتصويرها كسلطة عاجزة عن ضبط الأمن.

 

أصابع خارجية... ودور مزدوج للسلطة ومصر

تحليلات سياسية متقاطعة ترى أن ما يجري في غزة ليس عفوياً، بل نتيجة تنسيق غير معلن بين القاهرة ورام الله لخلق بيئة فوضى تضعف حماس وتفتح الطريق أمام “إدارة انتقالية” تحت إشراف عربي – دولي.

فمصر التي تتحدث عن “ضرورة استعادة النظام” تسعى، بحسب مراقبين، لتمهيد الطريق لوجود أمني مباشر أو غير مباشر داخل القطاع، تحت لافتة “حماية الحدود الجنوبية ومنع الفوضى”. في المقابل، تتحرك السلطة الفلسطينية في رام الله بهدوء لطرح نفسها كبديل شرعي وحيد، مستغلةً الاضطرابات لتأكيد أن حماس فقدت السيطرة وأن الوقت قد حان “لعودة الشرعية”.

بهذا، تتحول غزة إلى ساحة اختبار لإعادة هندسة المشهد الفلسطيني بما يتوافق مع رؤية أطراف إقليمية ودولية ترى أن أي انتصار لحماس يجب أن يُفرغ من مضمونه.

 

حرب نفسية وإعلامية متزامنة

المعركة ليست فقط في الشوارع. فالحملات الإعلامية الموجهة ضد حماس تتكاثر عبر منصات مرتبطة بالسلطة وأخرى مصرية، تركز على تصوير القطاع كمنطقة فوضى عاجزة عن إدارة نفسها. تُضخ أخبار عن “انهيار أمني” و“انقسامات ميدانية” و“تراجع شعبية حماس”، في محاولة لصناعة رأي عام يقبل بفكرة الوصاية الدولية كـ“حل اضطراري” لإعادة الاستقرار.

 

المدنيون وقود المؤامرة

في خضم هذا المخطط، يدفع المدنيون الثمن الأكبر. آلاف العائلات فرت من أحياء تشهد اشتباكات، والمستشفيات المدمرة أصلاً عاجزة عن استقبال الجرحى. مشاهد الفوضى هذه ليست عرضية، بل تُستخدم لتغذية السردية القائلة بأن غزة بحاجة إلى “إدارة جديدة” تدير الأمن والإعمار، فيما يجري تهميش أي حديث عن العدوان الإسرائيلي أو آثار الحصار المستمر.

 

الهدف: تقويض المقاومة وخلق وصاية جديدة

المعادلة واضحة: كلما اهتزت صورة حماس داخلياً، تعززت مبررات تدخل خارجي في القطاع. الأطراف المتورطة تراهن على إنهاك الحركة داخلياً، وتوريطها في نزاعات داخلية تستهلك رصيدها الشعبي وتضعف قبضتها الأمنية، ما يسهل تمرير مشروع “الوصاية متعددة الأطراف” تحت غطاء إنساني أو سياسي.

لكن هذا السيناريو يحمل خطراً مدمراً، إذ قد يفتح الباب أمام تفكك السلم الأهلي وتحويل غزة إلى ساحة صراع مفتوح، وهو ما يخدم فقط القوى التي عجزت عن إخضاع المقاومة عسكرياً فلجأت إلى ضربها من الداخل.

 

معركة جديدة بأسلوب مختلف

غزة اليوم ليست فقط أمام أزمة داخلية، بل أمام هجمة سياسية وأمنية ناعمة تستهدف جوهر انتصارها بعد الحرب. وإذا لم تُدرك القوى الوطنية طبيعة المخطط، فقد تجد نفسها أمام واقع جديد تُفرض فيه الوصاية باسم “الاستقرار”، بينما الهدف الحقيقي هو نزع سلاح الإرادة الشعبية وتجريد المقاومة من شرعيتها.

إنها معركة من نوع آخر — لا تُخاض بالسلاح فحسب، بل بالفوضى الموجهة والإعلام المسيس — ونتيجتها ستحدد ما إذا كانت غزة ستبقى حرة القرار، أم تُدار من الخارج باسم “التهدئة وإعادة الإعمار”.