في خضم المشهد السياسي والعسكري المضطرب الذي تعيشه إسرائيل بعد حرب غزة، يجد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو نفسه مجددًا أمام القضاء، في محاكمة فساد تهدد مستقبله السياسي وتضعه في قلب معركة مزدوجة: داخلية قضائية وخارجية دبلوماسية. هذه العودة إلى قفص الاتهام، في توقيت بالغ الحساسية، تكشف حجم التداخل بين مصير الرجل الشخصي ومسار الدولة التي يقودها، في واحدة من أكثر اللحظات حرجًا في تاريخه السياسي الطويل.

 

استئناف محاكمة الفساد

أعلنت المحكمة المركزية في القدس عن استئناف جلسات محاكمة نتنياهو يوم الأربعاء المقبل، حيث من المقرر أن يدلي بشهادته بين الساعة الثانية عشرة والنصف ظهرًا والخامسة مساءً. ويأتي ذلك بعد أن رفضت المحكمة طلب فريق الدفاع تأجيل الجلسة بحجة تزامنها مع التزامات دبلوماسية لرئيس الوزراء تشمل لقاءات مع الرئيس القبرصي نيكوس خريستودوليديس وشخصية أخرى لم يُكشف عنها.

ورغم الضغوط السياسية، أصر القضاة على حضور نتنياهو في الموعد المحدد، ما دفع مكتبه إلى إعادة ترتيب جدول أعماله لتخصيص فترة قصيرة للإدلاء بشهادته قبل استئناف نشاطه الدبلوماسي. وتدور الاتهامات حول ثلاث قضايا رئيسية تتعلق بتلقيه رشى من رجال أعمال، ومنح امتيازات إعلامية مقابل تغطية إيجابية، إضافة إلى استغلال المنصب لتحقيق مكاسب شخصية. وهي قضايا ينفيها نتنياهو بشدة، مدعيًا أنها “مؤامرة سياسية” من خصومه لإسقاطه من الحكم بعد فشلهم في ذلك عبر صناديق الاقتراع.

 

تعقيدات دولية ومذكرات توقيف

لكن معركة نتنياهو لا تقتصر على القضاء الإسرائيلي. فالرجل الذي لطالما قدم نفسه كرمز لـ“الأمن القومي” و“الردع الإسرائيلي”، يواجه الآن ملاحقة قضائية دولية أكثر خطورة. ففي نوفمبر الماضي، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرة توقيف بحقه وبحق وزير دفاعه السابق يوآف غالانت بتهم ارتكاب “جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية” خلال الحرب على غزة، التي خلفت آلاف القتلى المدنيين ودمرت أجزاء واسعة من القطاع.

ومع توقيع اتفاق وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى مع حركة حماس، ثار الجدل حول مصير هذه المذكرات، غير أن المتحدث باسم المحكمة الجنائية الدولية، فادي عبد الله، أكد في تصريح لـ“سكاي نيوز عربية” أن أوامر القبض “لا تزال سارية المفعول ما لم يقرر القضاة سحبها لأسباب قانونية”. وهو ما يعني أن نتنياهو، رغم وجوده في السلطة، يظل رسميًا مطلوبًا للعدالة الدولية، ما يضع إسرائيل في موقف حرج أمام شركائها الغربيين ويقوض محاولاتها لتلميع صورتها بعد الحرب.

وتتوقع صحيفة جيروزاليم بوست أن تمتد هذه المعارك القانونية لسنوات، حتى لو انتهت الحرب وأُطلق سراح جميع الرهائن، نظرًا لتعدد الدعاوى المرفوعة ضد إسرائيل أمام المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية في لاهاي.

 

دبلوماسية تحت الضغط

في المقابل، يحاول نتنياهو مواجهة هذه العواصف السياسية والقضائية عبر حملة دبلوماسية مكثفة تهدف إلى إظهار قدرته على التحكم في الأوضاع. فقد شهدت تل أبيب خلال الأسابيع الماضية زيارات متلاحقة لمسؤولين دوليين، بينهم مبعوثون أمريكيون وأوروبيون، عقدوا لقاءات مع نتنياهو والرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ وعائلات الرهائن. ويحرص نتنياهو على الظهور بمظهر “رجل الدولة” الذي يدير الملفات المعقدة بمهارة، رغم ما يواجهه من اتهامات داخلية وضغوط خارجية.

ويقول مراقبون إن هذه التحركات تمثل محاولة واضحة لإعادة صياغة صورته أمام الرأي العام الإسرائيلي والدولي، من “المتهم بالفساد” إلى “القائد الذي يقف في وجه الأعداء”. لكن الأزمة الأخلاقية التي تلاحقه باتت تشكل عبئًا سياسيًا كبيرًا على حكومته اليمينية المتشددة، خاصة في ظل تصاعد الانتقادات من داخل إسرائيل نفسها بشأن الأداء الحكومي خلال الحرب وطريقة إدارة ملف الرهائن.
مفترق طرق سياسي وقضائي

بهذا المعنى، يقف نتنياهو أمام لحظة فاصلة بين البقاء والسقوط. فبينما يحاول تحقيق مكاسب سياسية من وقف الحرب واستئناف العلاقات مع بعض الدول العربية، تلوح في الأفق محاكمة قد تنهي مسيرته الممتدة لأكثر من ثلاثة عقود. وتزداد المخاطر مع استمرار الضغط الدولي، إذ يصعب على رئيس حكومة مطلوب للعدالة الدولية أن يمارس دبلوماسية فعالة أو يضمن بقاء تحالفاته الخارجية.

في نهاية المطاف، يبدو أن بنيامين نتنياهو يخوض معركتين متزامنتين: معركة بقاء على كرسي الحكم، ومعركة نجاة من قفص الاتهام. وإذا كانت الحرب على غزة قد كشفت هشاشة الأمن الإسرائيلي، فإن محاكمته تكشف هشاشة النظام السياسي الذي سمح لرجل متهم بالفساد والبقاء في السلطة رغم كل الفضائح. وبين مطرقة القضاء الإسرائيلي وسندان العدالة الدولية، يبقى السؤال: هل ينجو نتنياهو مرة أخرى، أم تكون هذه المرة نهاية عهد الرجل الذي هيمن على السياسة الإسرائيلية لعقود؟