تتواصل حلقات مسلسل تهريب الآثار المصرية إلى الخارج وسط عجز واضح وتقصير رسمي، يكشف عن ضعف منظومة حماية التراث الوطني، ووجود شبهات تواطؤ داخل بعض الأجهزة الحكومية.
ففي 30 سبتمبر 2025، أعلنت السلطات الأمريكية عن مصادرة 14 قطعة أثرية مصرية قديمة، تم تهريبها إلى الولايات المتحدة، من بينها تمثال جنائزي من الحجر الجيري يعود إلى الدولة القديمة، وتُقدّر قيمته بحوالي 6 ملايين دولار.
هذه القضية ليست سوى فصل جديد في ظاهرة مستمرة منذ عقود، تتفاقم مع مرور الوقت وتثير تساؤلات حول قدرة الحكومة المصرية على حماية ثرواتها الحضارية التي تمثل أحد أهم أعمدة هويتها الوطنية.
تفاصيل الحادثة الأخيرة: تهريب بملايين الدولارات
القطع الـ14 التي صادرتها السلطات الأمريكية تم ضبطها في مطارات دولية أثناء محاولات إدخالها بطريقة غير قانونية إلى الولايات المتحدة، عبر شحنات كانت متجهة إلى جامع تحف في ولاية ماريلاند.
وأوضحت السلطات أن هذه القطع دخلت الأراضي الأمريكية دون أي مستندات ملكية أو تراخيص قانونية صادرة من مصر، ما يعد انتهاكًا واضحًا للقوانين الفيدرالية الخاصة بمكافحة تهريب الآثار.
ورغم أهمية هذه المضبوطات من الناحية التاريخية والمالية، إلا أن الجانب المصري لم يصدر حتى الآن بيانًا تفصيليًا يوضح مصدر القطع، أو الجهات التي سمحت بخروجها من البلاد، ما يعكس استمرار نهج التعتيم والتجاهل الحكومي في مثل هذه القضايا.
سرقة جديدة من قلب المواقع الأثرية
وبالتوازي مع هذه القضية، شهدت مصر واقعة أخرى لا تقل خطورة، تمثلت في سرقة لوحة أثرية نادرة من مقبرة "خنتي كا" بمنطقة سقارة الأثرية. اللوحة مصنوعة من الحجر الجيري، ومزينة بثلاثة فصول من مشاهد الحياة اليومية في مصر القديمة، وتبلغ أبعادها 40 × 60 سم.
اختفاء اللوحة فتح تحقيقات موسعة، وأُحيل الملف إلى النيابة العامة المصرية، وسط مخاوف من استمرار سلسلة السرقات داخل المواقع الأثرية المُحصّنة نظريًا بالحراسة.
الحادثة أعادت إلى الأذهان عشرات القضايا السابقة التي تم فيها اكتشاف اختفاء قطع نادرة، دون أن تُعلن نتائج التحقيقات للرأي العام، أو تُحاسب الأطراف المسؤولة عن الإهمال أو التواطؤ.
أساليب التهريب: شبكات منظمة وحيل متعددة
تتم عمليات تهريب الآثار من مصر بطرق معقدة ومنظمة يصعب كشفها بسهولة، حيث يتم إخفاء القطع الأثرية داخل حاويات دبلوماسية أو شحنات تجارية، وأحيانًا تحت أغطية تبدو عادية.
ومن أبرز الوقائع التي كشفت عن خطورة هذه الأساليب، محاولة تهريب ضخمة تم إحباطها في ميناء نويبع، حيث ضُبطت 2189 قطعة أثرية كانت مخفية بعناية تحت سرير كابينة سائق شاحنة أجنبي.
القطع المضبوطة تراوحت بين تمائم وتماثيل فرعونية وعملات نادرة من عصور مختلفة، وتُقدّر قيمتها بمليارات الجنيهات، وهذه الواقعة أبرزت حجم التهديد الذي يواجه التراث المصري، وفضحت الثغرات الأمنية في المنافذ الحدودية والموانئ البرية والبحرية على حد سواء.
تاريخ طويل من النهب والتهريب
ظاهرة تهريب الآثار ليست جديدة على مصر، إذ تعود جذورها إلى قرون مضت، حين استغل أجانب وعملاء محليون فترات ضعف الدولة وغياب القوانين الصارمة، لنهب كنوز الحضارة المصرية وبيعها في الخارج.
وخلال القرنين الماضيين، استمر هذا النهب بوتيرة متصاعدة، رغم محاولات تشريعية متعددة لحماية الآثار.
لكن ضعف الرقابة، وانتشار الفساد الإداري، وتراخي أجهزة الأمن، ساهمت في استمرار هذه الجريمة المنظمة، حتى أصبحت الآثار المصرية من أكثر القطع تداولًا في الأسواق والمزادات الدولية، ما يشير إلى أن أغلب عمليات التهريب لا تُكشف داخل البلاد بل بعد وصولها إلى وجهاتها النهائية.
التواطؤ الرسمي وغياب الشفافية
تزايدت الشبهات في السنوات الأخيرة حول تورط جهات ومسؤولين في الدولة في تسهيل عمليات تهريب الآثار، سواء عبر التغاضي الأمني، أو تعطيل جهود الحماية والمتابعة. فغالبًا ما تُضبط القطع المهربة خارج مصر، في مطارات وموانئ دولية، بينما نادرًا ما تعلن الحكومة عن إحباط محاولات تهريب داخلية.
وتتحدث بعض التقارير عن شبكات تهريب تضم موظفين رسميين ومسؤولين سابقين لهم صلات بمؤسسات الدولة، مما يجعل من الصعب ملاحقتهم أو محاسبتهم.
كما أن ضعف جهاز أمن الآثار، وتشتت المسؤوليات بين وزارتي السياحة والآثار والداخلية، يؤدي إلى غياب التنسيق الفعّال، ويمنح المهربين فرصًا أكبر للنجاح.
فشل حكومي في حماية التاريخ الوطني
في ظل هذه الوقائع المتكررة، يظهر أن الحكومة المصرية فشلت فشلًا ذريعًا في حماية تراثها الأثري من السرقة والتهريب.
فبدلًا من تعزيز الرقابة الأمنية وتفعيل آليات التعاون الدولي لاستعادة الآثار المنهوبة، تتعامل السلطات مع هذه القضايا بمنطق الصمت والتجاهل.
إن تكرار ضبط الآثار المصرية في الخارج، وغياب الشفافية في الإعلان عن التحقيقات الداخلية، يكشف عن أزمة حقيقية في إدارة هذا الملف.
المطلوب اليوم ليس بيانات شكلية أو تصريحات إنشائية، بل تحقيقات شفافة ومحاسبة للمسؤولين المتورطين، ووضع استراتيجية وطنية حقيقية لحماية كنوز مصر التي تُنهب أمام أعين الجميع.
فاستمرار سرقة لوحات أثرية وقطع نادرة من مواقع يُفترض أنها مؤمّنة، يؤكد هشاشة الحماية الأمنية وغياب الإرادة السياسية، ويجعل من التراث المصري هدفًا سهلًا للنهب الدولي في ظل تواطؤ رسمي وصمت مؤلم على جريمة مستمرة منذ قرون.