بقلم: مهدي مبروك
كاد قوسا "الربيع العربي" أن يُغلقا. ولربّما يأبى أن يفعل، فها أنفاسه المتقطّعة فيما يشبه أنين الإرهاق وزفرة التعب تعود من حين إلى آخر. ربّما لا نجد للوهلة الأولى خيطاً ناظماً لتلك الانتفاضات منذ أكثر من عقد. الحراك الجزائري ذات شتاء في 2019، وحراك "جيل زد" الذي انطلق منذ أزيد من أسبوع في المغرب. يتتالى ذلك كلّه في ظلّ إيقاعات متشابهة؛ فما جرى (ويجري) في نيبال نفحة من موجات يُلهم بعضها بعضاً، ولا نملك إقراراً وإثباتاً للنسب أو حتّى الجوار بين ما يجري حالياً وما جرى ذات شتاء انطلق من تونس سنة 2010، في صورة "ثورات" أسقطت أنظمة ومنحت سماواتٍ واسعة من الحرية المتخمة بالفوضى والتعجّل والتمرّد العنيف، حتى سقط المعبد على الجميع، وعادت أنظمة أوتوقراطية تسلطية ارتدّت بالشعوب إلى مرّبعات خوف دائم. ومع ذلك، نستطيع القول، وإنْ بشيء من المجازفة، إنّ غلق قوسَي الربيع العربي (بكل خيباته وإخفاقاته) لم يطمر نهائياً أشواق الناس، وتحديداً الشباب، إلى الحرية والعدالة.
قد تختلف الانتفاضات الشبابية الراهنة عمّا جرى سابقاً في بلدان عربية، إذ ظلّت قطع الدومينو تسقط واحدةً تلو أخرى في منطقة ظلّت عقوداً (وربّما قروناً) متحفاً للاستبداد السياسي. استطاعت منطقتنا أن تستعصي على الديمقراطية، حتى إنّ علماء اجتماع وسياسة ومؤرّخين عديدين أفردوها بنظريات يعود بها بعضهم إلى نواة صلبة في الثقافة العربية والإسلامية، ويحيلها آخرون إلى إخفاقٍ هيكليٍّ للنخب الحاكمة والمعارضة في بناء تصوّر مشترك، في حين يؤكّد طيفٌ واسعٌ أيضاً من الخبراء والمتخصّصين هشاشة البنى السياسية والاقتصادية العاجزة عن احتضان مشروع الديمقراطية... إلخ.
تتخلّص انتفاضات "جيل زد" في المغرب هذه المرّة، نسبياً، من إرث المنطقة وملامح حضانتها السياسية والاجتماعية، لينغرس في حراك عالمي. ثمّة مشترك إنساني لشعوب أخرى تشبهنا رغم بعض خصوصياتٍ تلهم هذه الحراكات. "جيل زد" ليس جيلاً عربياً خالصاً، بل هو كوني ينتمي إلى بشرية ما زالت فئات عريضة منها، وخصوصاً الشباب، تعاني الإقصاء والتحقير والهشاشة، ولا يعني أنها أجيال استُهدِفت وحدها، بل كان التهميش الأكثر "عدلاً" في توزيع حيفه على بقية الفئات الاجتماعية الأخرى. فلا تعني هذه المقاربة الجيلية أن جيل الشباب وحده ضحيةَ سياسات الإقصاء تلك، بل تعني أنه الأكثر قدرةً على التعبير عن ذلك الاحتجاج تجاه الأشكال المتعدّدة من إهانته واحتقاره.
تقدّم انتفاضة شباب المغرب حجّةً دامغةً على أن الشباب هناك، مثل غيرهم من بلدان المغرب العربي (وغيره)، لا يحظون بما يليق بهم، خصوصاً أن النمو الذي جرى منذ أكثر من عقد على أحداث 20 فبراير (2011) لم يفد مطلقاً هذه الفئة. ظلّت فئات أخرى تعتاش منه حدّ التغول، في حين ظلّ الشباب شهوداً على تلك الموائد كلّها، التي استأثرت بها فئات أخرى استطاعت تماماً من خلال الانتخابات أن تُحكم قبضتها من جديد، فلم تلتفت إلى غيرها. في مطالبها، ظلّت حركة "جيل زد"، رغم غموضها أحياناً، تعبّر ضمناً عن رغبتها الملّحة في تجديد النخب السياسية، سواء بالمعنى الاجتماعي أو الجيلي أو الثقافي للكلمة. ثمّة ما يشبه السّبات الموسمي الذي تمرّ به احتجاجات الشباب، ما يجعلنا نتنبه إلى ما يمكن أن تذهب إليه موجات تحركاتهم المقبلة. لن تنتهي الحركات الاجتماعية الشبابية مهما بدا لنا للوهلة الأولى خمودها وانطفاء جذوتها، نحن أمام ما يشبه تمارين إحمائية تحفظ لياقة الشباب في اندفاعاتٍ مقبلةٍ أكثر عمقاً وتجذّراً وجرأةً. شاهدنا هذا في نيبال وغيرها.
قد تختلف هذه الانتفاضات من مكان الى آخر، ففي حين تركّز انتفاضات "جيل زد" المغربية في إدانة التفاوتات الاجتماعية والتنديد بسوء الخدمات الاجتماعية، وتحديداً التعليم والصحّة، فإنها تأخذ في نيبال شكل التمرّد على السلطة الفاسدة والرغبة الجامعة في محاسبة المسؤولين، ولو ضمن أشكال من "العنف الثوري". لقد اخترق الشباب هناك حصون رجال النظام، وألقوا القبض عليهم في ما يشبه الاقتصاص أو العدالة الشعبية. لئن كانت انتفاضات هذه الأجيال من دون حدود بالمعنى الجغرافي، فإنها لا تستطيع إلّا أن ترتهن إلى إنتاج خصوصيات مجتمعاتها، من مدغشقر إلى كينيا مروراً بنيبال والمغرب... إلخ.
نعثر في ذلك كلّه دوماً على بارود ما يولّع الانتفاضة. كان موت ثماني نساء حوامل في إحدى مستشفيات مدينة أغادير القادح المحلّي، غير أن الأمر يتجاوز ذلك بكثير، فعادة ما تُستَدعى مظلوميات تتوغّل في التاريخ البعيد وتتوسّع في أمكنة واسعة لأوطان منكوبة عموماً. ولكن ما كان لهذا القادح، حتى وإن توغّل في الزمن العميق وتوسّع في فسحة الجغرافيا، أن يُؤتي أُكله لولا السياقات الراهنة. ثمّة مغربٌ سعيدٌ ومنتشٍ لا يبالي بتلك الفجوات/ الخدوش كلّها، هو ماضٍ في استعراض مباهجه وفرحه لجمهور قادم وأضواء كاشفة (كأس أفريقيا 2025، وكأس العالم 2030، وجهات سياحية مُستحدَثة). إنها نشوة كأس العالم التي تلهيه فلا ينتبه إلى التناقضات القاسية التي هو بصدد استعراضها أمام أبنائه، بقطع النظر عن الواجهة المظلّلة التي ستبهر العابرين منه لأيام قليلة: إعلاميون وجمهور غفير وساسة وفنّانون سيزورون المغرب برهةً، ثمّ يغادرونه ومعهم صور تذكارية زائلة لا محالة. تراب الأرض وملحها فقط هم أولئك الشباب، الذين امتعضوا من ذلك التوضيب الربحي المضني والمهين.
هذه التحرّكات، التي تنهض على كثير من ثقافة الذات والقيم الكونية، منغرسة في سياقاتها المحلّية. ربّما ستحتاج إلى كثير من الوقت والتمارين القاسية. ومع ذلك، واجه المغرب انتفاضته بكثير من الذكاء والفطنة لتجنّب سيول جارفة. إنه مغرب توبقال الجبل (أعلى قمة في سلسلة جبال الأطلس)، الذي ظلّ عصيّاً على الانجراف رغم أخاديده العميقة.